من قفزة 15 آب لغاية 15 شباط… التسلّح والعنف في الـ PKK- الجزء الثاني

الجزء الثاني: الـ PKK ومشروع الدولة التركية ضد الحركة الكوردية في شمالي كوردستان -كوردستان تركيا

كتابة تأريخ العنف المرير وتسلّح الـ PKK هي بمعنى تأريخ الـ PKK نفسها، كون هذه التنظيمات تأسّست وبنيت على العنف، فلا مناص من إبراز الخطوط العريضة لتأريخ شمالي كوردستان -كوردستان تركيا- في النصف الثاني من المئوية العشرين من أجل فهم واستيعاب مسالة تسلّح الـ PKK وعنفها.

أعوام 1950-1960 هي أعوام تحرّر الكورد من التقاعس والوهن والذلّة

فمنذ عام 1942، بدأت الحركة الكوردية في كوردستان تركيا، واستطاعت لغاية 1958 الصمود أمام وكلاء الأتراك الذين يستهدفون الكورد وإدانتهم، كما كانت هناك حركة اجتماعية خلال خمسينيات القرن المنصرم.

في ستينيات القرن المنصرم، كانت سحب الوهن والذّلّ إثر الانتكاسات التي أصابت الكورد عقب انتفاضات “شيخ سعيد وجمهورية ئاكري ومجازر ديرسم” تتبدّد وتضمحل، وكانت براعم الحركات والتنظيمات السياسية تنمو من جديد، وكان تأسيس أول حزب عصري للكورد في تركيا باسم الحزب الديمقراطي الكوردستاني-تركيا (PDK-T) فصان الحزب الجديد استقلالية الكورد في تركيا، وسمّى نفسه بـهذا الاسم تيمناً بـ (PDK-I).

لم يسري تذويب الكورد في مدن وجبال كوردستان، فنضال الحزب الديمقراطي الكوردستاني وبالأخص في سوريا والعراق أصبح محرك هذه اليقظة في كوردستان تركيا، وفي المناطق الحدودية للعراق وسوريا، وكورد منطقة بوتان وهكاري وميردين أصبح باستطاعتهم رؤية نضال الـ (PDK) هناك والشعور بنبضها وإخلاصها، نعم كانت هناك حدود اصطناعية بين تلك المناطق غير أن وحدة الثقافة والتأريخ لم تكن لتعترف بأية حدود مرسومة، فكانوا يشعرون بأنهم جزءُ لا يتجزأ من النضال والمقاومة المشتعلة هناك، وبالأخص من نضال البيشمركة وكفاحهم، فكان الشعب في الشمال -كوردستان تركيا- في قلب النضال والحركة القومية، ويتحدّثون بلغتهم الكوردية الأم، بمعنى أن شمالي كوردستان -كوردستان تركيا- لم يكن بمنأى عن الأحداث بل كان يعيش في قلب الحدث.

فنظرية الـ PKK القائلة: “في المرة الأولى قلنا بأن كوردستان مستعمرة، وأن الكورد في تركيا كانوا كجسد ميت ونحن من أحييناه” بعيدة كلّ البعد عن الحقيقة والصدق، فالكورد لم يكونوا أمواتاً كما أنها ليست أول من قالت بأن “كوردستان مستعمرة”.

فـ “زنار سلوبي” قدري جميل باشا، كان قد قال بداية القرن العشرين بأن كوردستان محتلّة، كما قال أحد مؤسّسي (PDK-T) يدعى شاكر أبوزدمير أمام القاضي عام 1969 بأن كوردستان مستعمرة لتركيا منذ 46 عاماً، فالكورد كانوا في يقظة سياسية لدرجة أن يدركوا حقيقة واقعهم ووضعهم آنذاك، كما شعرت كافة الدول وتركيا من بينهم بهذا الانبعاث الكوردي ويقظتهم.

التقارير الأمريكية والتركية حول الكورد

عام 1952، زارت القنصلية الأمريكية في تركيا (E.N. Wagoner) مدناً كوردستانية في تركيا، وكتبت تقريراً جاء فيه: “ورغم استمرار الحكومة التركية على موقفها الرافض لوجود أية مشكلة كوردية -قضية كوردية- غير أن هناك ما يقارب من 1 إلى 1.3 مليون إنسان يتحدّث باللغة الكوردية في حدود هذه البلاد، وبهذا سيخلقون المشاكل للأتراك مستقبلاً” بمعنى، أن بوادر ظهور المقاومة في كوردستان تركيا في تقرير الكورد لعام 1952 كانت تظهر بوضوح.

كانت الدولة التركية تتخوّف من الحركات الكوردية في كوردستان تركيا -شمالي كوردستان- وكذلك حزبي الديمقراطي الكوردستاني في العراق وسوريا، وتراها مخاطر عظيمة تدكّ أسسها، ففي تقرير نهاية العام لعام 1960 أبلغت تركيا يأسها وذعرها لأمريكا قائلة: “الحركات الكوردية الداخلية والخارجية خطيرة” كما جاء في التقرير “ينبغي على أمريكا تبنّي موقف تجاه هذا الوضع، ونحن سنكون أصحاب مشروع وفق مفهوم الدولة”

فنهضة الكورد وكوردستان في كافة أجزاء كوردستان الأربعة جعلت الاستعمار التركي في نشاط وحركة مستمرة، ففي بداية المئوية حاولت الدولة التركية صرف النظر عن قضية الإبادة والمجازر بحقّ القضية الكوردية، غير أن الحقيقة الاجتماعية للكورد أفشلت هذه المساعي والمحاولات، فأحدثت الدولة التركية في ستينيات القرن المنصرم تصوّراً جديداً للكورد، وباعدت بين الحركات الكوردية، وانخرطت في إدارتها، وصنعت كورد تركيا، فأدارت الدولة التركية برنامجاً طويل الأمد لتحقيق هذا الهدف، فاستمر هذا البرنامج لغاية نهاية تسعينيات القرن المنصرم، وقد تحكّم هذا البرنامج بالحركات والتنظيمات الكوردية لغاية 1980، كما قضى على الوطنيين المخلصين والراديكاليين.

اليسار التركي والشكوك الحائمة…

في العقد الستيني “1960-1970” شهدت الحركات اليسارية واليمينية نشاطاً بارزاً في تركيا، وكان اليمينيون الأتراك في علاقات مباشرة وتواصل مستمر مع الدولة، فكانوا يؤيدونها، وأما اليساريين الأتراك فمهما ابتعدوا عن الدولة فإنها تعدّهم “رجالاتها” وتقودها في الظلام.

فكانت للدولة علاقات سرية مع العديد من الكوادر المتقدمين للتنظيمات والحركات اليسارية، بل حتى لمؤسّسي (TİP) أيضاً، فالعديد من الأسماء التي تحتدم النقاشات حولها أمثال “كمال سولكر وماهر كايناك ودوغو برينجيك وغيرهم…” ما زالوا يعملون من أجل مستقبل الدولة التركية.

فمن البديهي أن يكون اليسار التركي من صنع الدولة حسب مقولة مصطفى كمال: “لو أصبحت الدولة بحاجة للشيوعية فسنأتي بها أيضاً” وموضوعنا هنا ليس اليسار التركي، بل لبّ الموضوع هو أن الدولة ومنذ الستينيات كلّفت اليساريين الأتراك بمهمة صرف الكورد والحركات الكوردية عن أهدافهم القومية، وغرقهم بتأثيراتهم القشرية، وإبعادهم عن مطالبتهم بهويتهم القومية، وتحوير قضيتهم القومية إلى قضية حقوق وعدالة ومساواة و… فالحق أنّنا نعرف جيداً أن الدولة هي من كلّفت هذا اليسار التركي بردع الكورد من نهج خط قومي مستقل.

فأصبح اليسار التركي كنبع نضال الكورد وكفاحهم، وهذه كانت أكبر مصيدة لاصطياد شباب الكورد وخداعهم، فبذل هذا الجناح محاولات استثنائية لغرق شباب الكورد في ذهنيتهم “اليسارية” هذه في ستينيات القرن المنصرم، لهذا فسح لهم المجال وعبّدت لهم الطرق، فكانت أهم خطوة للدولة في محاولاتها لصنع “الكوردي التركي” هي إدخال الكورد في صفوف اليساريين الأتراك، وهذه السياسة تُدار لغاية يومنا هذا.

اختيار الطريق وتنقية الكورد السيئين

لم تقدر الدولة على تسخير الكورد وتوظيفهم وفق المقولة اليسارية “الكفاح المشترك ضد الإمبريالية” كم لم ينخدع الكورد بعبارة “كلّنا مسلمون” فأصبح الكورد أرباب إخلاص الديمقراطي الكوردستاني، ولم تستطع الدولة منع كوردايتية الكورد، فقامت باغتيال من أنار السبل أمام القضية الكوردية سواء في العلن أو سرّاً.

من أمثال هؤلاء، فائق بوجاك الذي استشهد في رهاي، علماً أن جرحه لم يكن بجرح قاتل غير أنه قتل في المستشفى.

فصفّت الدولة التركية قادة كوردستان تركيا -شمالي كوردستان- واحداً تلو الآخر، ولم يكن “د.شفان،آنكو” إلا استمراراً لهذه المهمة والعملية، فمن جانب أبادت الدولة كبار الكورد وعظمائهم ومن جانب كانت تضع مشاريع لخرق الحركات الكوردية وتمزيقها، فيا تُرى هل أرادت تركيا من تعبيد الطرق فتح طرق جديدة لآخرين؟

أوجلان والاستخبارات التركية (MIT)

ما كان موقع أوجلان في الحقيقة التي سردناها؟ حقيقةً، من الواجب على مثقّفي الكورد الوقوف على هذا التساؤل ملياً، كونه يحوي المئات من النقاط المظلمة، والملفت للنظر أن الدولة التركية تحاول إخفاء هذه النقاط بقدر إخفاء تنظيمات الـ PKK لها، فعلاقات أوجلان والمخابرات التركية هي خطّ أحمر للدولة والـ PKK على حدّ سواء.

فقد أغتيل الكاتب والصحفي التركي (أوغور مومجو) في 23 شباط عام 1993، عندما كان يتحرّى علاقات أوجلان والمخابرات التركية، ويؤلّف كتاباً بعنوان “القضية الكوردية” فقتل بانفجار عبوة مزروعة في سيارته، ولم تكشف الدولة عن قتلته ليتّضح بعدها أن الدولة لا تريد كشف قتلته!

فاغتيال أوغور مومجو، والتنظيمات التي كان أوجلان عضواً فيها قبل تأسيس الـ PKK، وزواج أوجلان من ابنة أحد أعضاء المخابرات التركية، ورفاقه منها وغيرها من المسائل توضّح وجود علاقات قوية بين أوجلان والمخابرات التركية.

كيف كانت طبيعة علاقة أوجلان والمخابرات؟

وهل أرادت الدولة تمهيد الطريق أمام أوجلان من وراء اغتيال الكوادر الكورد في سبعينيات القرن المنصرم؟

وهل مهّدت السبل أمامه؟

فنحن نطرح تساؤلات تحتاج لإجابات مديدة وواسعة، فلدى الحديث والكتابة عن تأريخ العنف والتسلّح في الـ PKK نرى ضرورة تسليط الضوء على الأحداث من هذا المنظور أيضاً ليتّضح التأريخ أكثر فأكثر…

مقالات ذات صلة