من قفزة 15 آب لغاية 15 شباط… التسلّح والعنف في الـ PKK

الجزء الرابع: عملية التطرف السياسي أو بلورة التطرّف بمساندة الدولة “1978-1980”

قال أوجلان في كتابه “تعليمات الحزب” والذي نشر عام 1996: “انتشرنا عام 1977 في كوردستان، وفي عام 1978 أدرجنا ركيزة “التطرّف” في سياسة التسلّح” هذه المقولة لأوجلان صحيحة، فالـ PKK طوّرت من وجودها السياسي على ركيزة التطرّف، فلا تحالفات ولا معاهدات في مسيرة الـ PKK، وهذه الميّزة تظهر لنا بوضوح تام ما بين عامي 1978 و 1980.

فهناك شكوك كبيرة في أن الدولة التركية هي من ضغطت زرّ إحداث الفوضى آنذاك، فبدأت التنظيمات المزيّفة بالتأسيس على يد الدولة في المدن التركية، وتعمّقت الخلافات أكثر بين اليساريين واليمينيين، فتهيّأت الفرص المواتية لحدوث الانقلابات العسكرية، وكلّ هذا مهّد الطريق لانقلاب 12 أيلول، وهذا التطرّف السياسي الذي تحدّث عنه أوجلان تزامن مع ما تحدّثت عنه الدولة وشرعت به، علماً أن ذلك لم يكن من باب الصدفة إطلاقاً، بل كانت سياسة متزامنة مشتركة أدارتها الدولة والـ PKK في الزمن نفسه!

حركة قتل الكورد

عام 1978، هيأت الـ PKK الأرضية المناسبة للصراعات مع باقي الحركات الكوردية في المدن الكوردستانية، في تلك الأثناء، بدأت الـ PKK بخلق الصراعات مع (DDKA) “جمعية الثقافة الديمقراطية-الشرق” في دياربكر، و “طريق الحرية” في ميردين، خلقت أجواء مشحونة ضد (KUK) الوطنيين الأحرار الكوردستاني، وفي ديرسم تجاه (HK) تحرير الشعب، في تلك المدن، لم تمسّ الـ PKK أيّاً من عساكر الأتراك وشرطتها بل قتلت العشرات من الكوادر الكورد.

ولكي تشرعن الـ PKK تطرّفها هذا، أقنعت كوادرها أن (DDKA) قد أصدرت قراراً بحقنا يتجسّد في إبادتنا والقضاء علينا! وأنهم قالوا بأننا لن نسمح بدخول الـ PKK لدياربكر -آمد- وبهذا هيجت كوادرها تجاه هذه التنظيمات واثارتهم، كما شرعنت قتل الكورد في فكر الناس في الوقت الذي بدأت مشاريع الاحتلال المتجسّدة في (قتل الكورد بيد الكورد) بالانطلاق، فحسب هذه التنظيمات أنّ وراء قتل الكورد يوجد هدف عظيم، ولو لاحظنا في الوقت الراهن فسنرى نفس السياسة ممنهجة متّبعة في مسيرة هذه التنظيمات، فتبرّر قتل الكورد للكورد وخلق العداوة بينهم، لهذا لو قلنا بأن الـ PKK ومنذ تأسيسها كانت حركة قاتلة للكورد فقولنا ليس خطأً، إذ نستطيع سرد عشرات الأمثلة لمثل هذه الممارسات ما بين عامي 1978-1980.

أيا تُرى هل جماعة الـ PKK في أنقرة مماثلة لجماعتها في كوردستان؟!  

هناك اختلاف شاسع بين جماعة الـ PKK التي تأسّست في أنقرة وجماعتها التي تأسّست في كوردستان، فالمجتمعون حول الـ PKK في كوردستان كانوا وطنيين مخلصين يؤمنون بنضال كوردستان على نقيض الجماعة التي تأسّست في أنقرة فقد كانت ترى جماعتها في كوردستان خطراً عظيماً محدقاً بها، فجماعة أنقرة التي كانت مختومة بختم الدولة ترى كوادر الـ PKK في كوردستان مختومين بختم الوطنية والقومية، ويخافون من تعظيم شوكتهم، فرأى أوجلان أنه ينبغي عليه توسيع صلاحياته وإحكام قبضته على كوادر الـ PKK، وكان هذا رهناً بإرساء الخوف والرعب في التنظيم، ولكي يتحقّق هذا كان لابدّ من تقبّل عمليات الاغتيال في أطر التنظيم والنظر إليها كحالة طبيعية، من أجل السيطرة على لجام التنظيم وبقوة.

وكانت أول عملية قتل هي لـ “جلال آيدن” فرغم انتفاء الأدلة إلا أن الـ PKK ادّعت وأصرّت أنه يعمل لصالح غيرها من التنظيمات، فأصدر شخصان قرار قتله، ولن نستغرب من هذين الشخصين فقد أصدرا العديد من قرارات القتل ألا هما “أوجلان وبايك”.

اختفى جلال آيدن لفترة، فلم يعد أحد يعلم مصيره المجهول، وبعد فترة، انشقّ أحد كوادر الـ PKK منها يدعى “شاهين دونمز” وسلّم نفسه للدولة وكشف مصير جلال آيدن، فـ “شاهين دونمز وآلي كوندوز وآيتكين توغولك “شقيق فيصل توغولك” دعوا جلال آيدن لاجتماع هام، وأعطوه مجرفة وأخذوه للغابة وطلبوا منه حفر قبر ومن ثمّ قالوا له قد صدر قرار قتلك، ووفق أقوال شاهين دونمز فإنهم أطلقوا رصاصة على مؤخرة رأسه وضربه أحدهم برجله فأرداه في الحفرة، وبعد مرور أشهر اعترف شاهين فأمرت الدولة بحفر موقع الحادث لتعثر على جثة جلال آيدن لم تتحلّل تماماً، وبهذا الشكل، دخلت عملية قتل الرفاق أيديولوجية وتأريخ الـ PKK في أوسع أبوابها وأقدسها!

جميل بايك: دياربكر إما لنا أو للـ (DDKD)

كانت الـ PKK قد شرعت بالاعتداءات على الحركات والتنظيمات الكوردية الأخرى، فبدأت تجبر هذه الحركات على رفع صور رموز الـ PKK في مواقعها ومقارها، ولمّا لم تنل الترخيص الرسمي أقنعت كوادرها بأن هذه الحركات هي السبّب وراء ما حصل، وأنها لا تسمح لنا بالنضال في كوردستان في محاولة منها لإثارة كوادرها ضد هذه الحركات، يقول جميل بايك في إحدى كتاباته نشرها عام 1993: “عام 1978 كانت حركتي (DDKA) وطريق الحرية قائمتين في آمد، وكانتا مناوئتين لنا ولنضالنا، وتقولان بأنكم لو تفعلون هذا فسيتعرّض شعبنا لمجازر، فبدأنا بالهجوم عليهم، وكان قرارنا هو أنه لو تعاونت حركة (طريق الحرية) معنا لقمنا بطردهم من دياربكر، فـ “دياربكر” إما لنا أو لهم، فالمكان الذي كنّا نتواجد فيه لم يكن أحد يقدر على البقاء فيه”!

فجميل بايك هو الاسم المظلم الثاني بعد أوجلان في الـ PKK، وقوله هذا كان صحيحاً، والشاهد عليه أنه خلال عامين فقط اغتيل 57 من الكوادر المتقدمين لـ (KUK) في ميردين!

فهاجمت الـ PKK مواقع النشر التي انتقدتها، نصبت الكمائن للصحفيين ونفّذت التفجيرات في المؤسّسات والدوائر، فكانت كعاصفة إرهابية هوجاء خيّمت على كوردستان.

حقبة قتال العشائر

خلّفت الـ PKK فوضى عارمة في عموم مدن كوردستان، (ئاكري، دياربكر وضواحيها، بينكول، ديرسم، باتمان، سيرت وغيرها العديد من المناطق) أصبحت مراكز الفوضى، غير أنه كانت هناك مدن لا تستطيع نشر الفوضى فيها كونها منضبطة اجتماعياً ومؤسّساتياً، فكانت الطبيعة الاجتماعية فيها مغايرة، مثال ذلك أورفا، فكان لابدّ من إشعال حرب عشائرية فيها لسحبها نحو هذه العاصفة الفوضوية الهوجاء.

فكان حادث مدينة (حيلوان) الذي نفّذته الـ PKK حادثاً لخلق الفوضى، رغم هذا، تبدي الـ PKK الحادث وكأنه مقاومة عظيمة ضد الأغوات ورؤساء العشائر، غير أن حقيقة الحادث هي أن الـ PKK أصبحت طرفاً في خلاف نشب بين عشيرتين، فآزرت أقواهما، وبدأت بإشعال حرب ضد الأخرى، فكانت هناك عشيرتان في حيلوان، إحداها عشيرة (سليمان) كان غالبية أفرادها فقراءً لا يملكون أية أراضي أو بساتين، كما لم يكونوا متمكّنين في الدولة ومؤسّساتها، والعشيرة الأخرى هي (بايداش) غالبية أفرادها كانوا أثرياء، من بينهم برلمانيون، وكانت ذات ثقل في أطر حزب الشعب الجمهوري (GHP) فآزرت الـ PKK في الحرب الدائرة بين العشيرتين عشيرة بايداش، فطردت عشيرة (سليمان) من حيلوان، وقتل العشرات من أبنائها وأحرقت منازلهم، بهذا، خطت الـ PKK كبرى خطواتها في شمالي كوردستان -كوردستان تركيا- في مدينة حيلوان، فخلقت الخوف والرعب وأوصلت اسمها لمسامع الشعب، وواصلت بعدها قتل الكورد…

في 27 تشرين الثاني عام 1978 تحوّلت الـ PKK لحزب لعقدها مؤتمراً، ووفق أقوال بايك فإن الحديث انحصر لدى عبد الله أوجلان بنسبة 95%! حاولت الـ PKK إبداء هذا المؤتمر كنشاط كبير وحدث عظيم، كما حاولت تعظيم اسمها أمام رئيس عشيرة بوجاك من وراء هذا الحدث، غير أنها لم تفلح، يقال بأن الحقيقة مخبأة بين التفاصيل، فهناك تساؤل يبدو كمعلومة غير أن الحقيقة الكبيرة كامنة في جوابه، ألا وهو “لماذا لم تستهلّ الـ PKK تأسيسها بمقتل العساكر والبيروقراطيين الأتراك وإنما استهلّتها وأعلنتها بقتل شخص كوردي؟!”

الشبهات والشكوك والاعترافات

تقول الـ PKK في تأريخها بأنها لم تكن تملك المال الكافي لشراء الأسلحة، كنّا ننام في الشوارع، فيا تُرى كيف نفّذت هذه العمليات؟! أم هل كانت هناك عقول مختبئة تتعاون معها؟

هذه الشكوك لا تساورنا وحدنا، بل تساور الجميع، فحتى بعض الصحفيين المنطوين تحت أجنحة الدولة طرحوا مثل هذه التساؤلات، مثال ذلك، عام 1979، يطرح الصحفي (يالجين دوغان) هذا التحليل: “الـ PKK أشدّ التنظيمات تطرّفاً واعتداءً، وعموم من اغتالهم الآبوجيون إنما هم أشخاص وطنيون ثوريون أو أعضاء حركات أخرى” في الوقت نفسه، أثار دوغان شكوكاً ساورت فكر كل شخص بحيث يتساءل: “مثال ذلك، في إحدى مقار الـ PKK في باتمان، الكلّ يعرف من هم الآبوجيين، والمهام التي شارك فيها هؤلاء الآبوجيين، وأين يخفون أسلحتهم، فعموم الناس يعرفون هذه المعلومات والمستغرب هنا هو كيف لا تعلم الدولة بشيء يعلمه الجميع؟!

لماذا لم تمنع الدولة الـ PKK من تنفيذ هذه المهام المتطرفة وتقوم بردعها؟! بل هناك شيء في غاية الغرابة ألا وهو أن المعارك كانت قد اشتعلت في عموم البلاد، في حين كان عبد الله أوجلان وزوجته (فاطمة) كانا يقيمان في شقة بدياربكر، في الشارع المتواجد فيه مكتب التنظيم، وهي منطقة الأثرياء، فكانا يديران هذه العمليات دون أن يسيء إليهما أحد أو يمسّهما بسوء؟!

علماً أن شاهين دونمز كان قد استسلم للدولة آنذاك، وكان قد كشف كلّ شيء، محل إقامة أوجلان وكلّ شيء، غير أن الدولة لم تعتقل أوجلان! بل حتى جميل بايك بنفسه يقول بأنه لما استسلم شاهين ألقت شرطة العزيزية القبض على بعض رفاقنا، غير أنه وُجّه تحذير من مركز الدولة في أنقرة لشرطة العزيزية من المساس بهؤلاء! فيا تُرى ما السبب وراء صدور هذا التحذير من الدولة من اعتقال هؤلاء وتحرير معتقليهم؟!

ففي مدينة حيلوان أدامت الـ PKK حربها لشهور في ظلّ صمت الدولة! بعدها توغّل الجيش التركي في حيلوان لمدة 14 يوماً وطرد جميع أعضاء الـ PKK من المدينة فتنعّمت المدينة بالهدوء طيلة هذه الفترة، غير أنه ولسبب مجهول انسحبت الدولة من حيلوان وعادت الـ PKK للمدينة، وهذا الحادث كان موضع شكّ وريب بحيث تساءل البعض من زعماء أحزاب المعارضة رئيس وزراء تركيا آنذاك (بلند أجاويد) عن سبب انسحاب الجيش! فممّا لا شكّ فيه أنه كانت هناك عقول وأيادٍ تتعاون مع الـ PKK وتساندها بكلّ قوة لكي تنتصر في حيلوان!

بعدها، ألقت الـ PKK القبض على رئيس البلدية وأعضاء مجلسها المناوئين لها، وأجبرتهم على الاعتراف عبر مكبرات الصوت بخيانتهم، واستسلامهم للثوريين ومطالبة أهالي المدينة بالاستسلام على خطاهم! في حين لم يكن مقرّ القوات الأمنية في حيلوان يبعد سوى 50 م بينما مقرّ قيادة الجيش التركي 200 م عن مبنى البلدية وموقع مكبرات الصوت!

فلم يتدخّل أحد في هذا الوضع، وهناك العديد من الاثباتات تؤكّد أن اضطرابات حيلوان وباقي المدن الكوردستانية كانت تقف من ورائها الدولة والـ PKK معاً!

الحصيلة… الاضطرابات والصراعات تتآكل كوردستان، يتمّ اعتقال واغتيال كوادر الكورد المتقدمين، أضاقت الدولة الخناق على الكلّ، في ظلّ هذه الظروف والأوضاع توجّه أوجلان -والذي كانت زوجته عميلة مخابراتية ورفيق دربه عميل مخابراتي- إلى سوريا فاضي اليدين، وأنقذ نفسه ليندلع بعدها انقلاب 12 أيلول!

فهذه الاضطرابات والفوضى التي أرادتها الدولة حدثت، على إثرها تفرّقت الأطراف السياسية واندثرت وانجرحت ما عدا أوجلان…

الجزء الخامس: هل أنقذ أوجلان نفسه أم أن هناك من أنقذه؟ ما الذي كان بانتظار كوادر الـ PKK؟

مقالات ذات صلة