أنفاق الحرب للبكك… جحيم شباب الكورد

أنفاق الحرب للبكك... جحيم شباب الكورد

هناك قصة مشهورة في التراث الهندي، تتحدّث عن أربع فراشات كانت تحاول معرفة طبيعة النار، الفراشة الأولى كانت تحلّق حول النار من مكان بعيد، وتقول: “النار مشرقة” لم تنفهم الفراشات الأخريات طبيعة هذه المعلومة وحقيقتها، فقرّرت الثانية الاقتراب أكثر من النار، فحلّقت حولها وقالت: “النار لاذعة” غير أن هذا أيضاً لم يكن كافياً لتبتعد الأخريات عنها، فقرّرت الثالثة الاقتراب أكثر، فطارت على مقربة شديدة من النار فاحترقت أجنحتها، فعادت وقالت: “النار محرقة” في حين قامت الأخيرة بالاقتراب أكثر من النار لمعرفة طبيعة النار جيداً فاحترقت فيها واختفت ولم تعد، نعم لقد تعلّمت ما تريد أن تعرفه، لكنّها لم تعد قادرة على إخبار الباقي عنه!

باستطاعتنا القول من أن الفراشة الرابعة تعلّمت فعلاً ما تريد معرفته، لكنّها لم تعد قادرة على إخبارنا بحقيقة وطبيعة النار، وهذه القصة تعكس حقيقة الـ PKK، فعندما نحاول الكشف عن حقيقة الـ PKK أو عندما يريد شخص ما أن يعرف حقيقتها، ينبغي عليه قراءة تأريخها الحقيقي، أو الانخراط في صفوفها ومعايشة ما يدور في فلكها لمعرفة حقيقة هذه التنظيمات، كون حقيقة الـ PKK تُعرف جيداً عندما لا نستطيع الحديث عنها…

لماذا نسرد هذه القصة؟ لأن أحد شباب الكورد والذي لم يكن يعرف حقيقة الـ PKK وطبيعتها، بل كان ينظر إليها أنها حزب كوردستاني ثوري، فاقترب من صفوفها كالفراشات التي تحدّثنا عنها، إلّا أنه لم يكن كالفراشة الرابعة بل يشبه لحدّ كبير الفراشة الثالثة التي احترقت أجنحتها، فهذا الشاب الكوردي احترقت أجنحته في أنفاق الموت التي سمّتها البكك بـ “أنفاق المقاومة” فرجع لكي يروي لنا ولعموم الشعب الكوردي حقيقة الـ PKK لكي يفهم هو بدوره جيداً هذه الحقيقة.

هكذا تحدّث الشاب الكوردي عن أنفاق الموت للبكك

انتقلت من كوردستان تركيا-شمالي كوردستان، واتّجهت صوب الجنوب-أي إقليم كوردستان- للانضمام لصفوف الـ PKK، بعد مضي شهر، وصلنا لجنوب كوردستان-إقليم كوردستان- رغم المصاعب والمشاق والآلام، هناك، انضممت لصفوف الـ PKK وتوجّهنا لإحدى مخيّماتها، كان عددنا ما يقارب من 100 شخص، اجتمع بنا مراد قره يلان وباور ديرسم، فرّقوا عنا الصغار والمرضى والجرحى الذين لا يقدرون على القتال، وقيل لهم بأنه يجب عليهم العمل في الأنفاق، وهذا كان خبراً مفرحاً وأملاً عظيماً بالنسبة لي، فكنت أعتقد أن أنفاق الـ PKK تشبه أنفاق الفيتناميين التي حفروها لقتال الأمريكيين، وأنها طويلة مسافة الكيلومترات، إلا أن حلمي لم يدم طويلاً، ففي الأيام الأولى لعملي في الأنفاق فهمت جيداً أن الأمر ليس كما يُقال… نعم هي أنفاق ولكنها ليست كأنفاق الفيتناميين، بل كانت تبدو لي كتوابيت الموت لشباب الكورد.

حفرنا الأنفاق تحت الصخور العظيمة بمشقّة بالغة وصعوبات جمّة، وفي جوّ ينعدم فيه أدنى وسائل الأمان، فكنّا نمتزج متفجرات الـ TNT ونترات الأمونيوم ببعضها البعض، ونستخدمها كمنفجرات لحفر الأنفاق، وكان هذا عملاً بالغ الخطورة والخطأ في الوقت نفسه؛ لأن لهذه المواد تأثيرات سلبية ومخاطر عظيمة على صحّة الأشخاص الذين يعملون عليها ويستخدمونها، كما كان يستخدم في الكثير من الأحيان الأدوات التي تستخدم في قطع المرمر إلّا أنها ايضاً كانت تتسبّب بعض الأحيان بإصابة وجرح العاملين عليها والمئات من الگريلا، ولهذا كانت المواد المتفجرة تستخدم في أغلب الأحيان.

ولأن هذه الأنفاق كانت تحفر من أجل الاحتماء بها والاختباء فيها كان ينبغي أن تحتوي على بابين-مخرجين- أو أكثر، وعند قصف المقاتلات التركية كان من الواجب على الجميع الاختباء في هذه الأنفاق والاحتماء بها، لذا كامن المفترض أن تحتوي على كافة وسائل الحماية والوقاية، وكانت جميع المخارج وأبواب هذه الأنفاق تغطّى ببطانية سوى الباب الرئيسي للنفق.

ولعدم وجود الأوكسجين الكافي والهواء النقي في هذه المغارات والأنفاق كانت تتعفّن من الرطوبة، فكانت تفوح منها رائحة كريهة جدّاً، من بقايا روائح المواد المتفجّرة والبارود ممّا كانت تتسبّب بإصابة رئة الإنسان بالتهابات قاتلة مميتة، وكان الوضع يتحتّم على الإنسان أن يشتهي النوم الطويل في هذه الأنفاق، وقد تسبّبت هذه الأنفاق بعد عام 2015 بإصابة العديد من الگريلا بأمراض خطيرة مزمنة وقاتلة، وتعرّض المئات من الشباب في سنّ الـ 20 عاماً لجلطات قلبية وتوفّوا إثرها.

المواد الغذائية والماء المخزونة في هذه المغارات والكهوف والأنفاق كانت تتعفّن وتفسد، رغم هذا كان الگريلا مضطرّين لأكل هذه المواد الفاسدة والمتعفّنة، وهذا أيضاً كان سبباً كافياً لظهور العديد من الأمراض المختلفة في صفوف الگريلا، رغم كلّ هذا، كانت الغازات المنبعثة من مولدات الكهرباء أيضاً تتسبّب بإصابة عدد غير قليل من الگريلا بالتسمّم بغاز ثاني أوكسيد الكاربون والإصابة بحالة من الإغماء أو الوفاة إثرها.

أما كبار قادة البكك، فكانوا يقولون بأنّنا سنحفر الأنفاق وليأت الأتراك لنحاربهم فيها ونجعلها مقابر لهم! غير أنه لم يمض وقت طويل حتى هاجمت جيوش الأتراك وعساكرهم في (خواكورك والزاب وجارجلا وحفتنين…) وعموم المناطق الحدودية التي حفرنا فيها الأنفاق، ولم يكن لهذه الأنفاق أي تأثير يُذكر، بل على العكس تماماً، أصبحت مقابر لشباب الكورد، فقد لقي المئات من شباب الكورد مصرعهم في عشرات الأنفاق والمغارات التي حفرت من أجل حمايتهم! فلا يخفى على أي عاقل أن حفر هذا الكمّ الهائل من الأنفاق بمئات الكيلومترات لن يتمّ حمايتها! ورغم مطالباتنا ودعواتنا المستمرة من قادة البكك من عدم جدوى حفر هذه الأنفاق، بل وإبداء سلبياتها، إلا أن مطالباتنا لم يكن لها أي صدى، بل كلّ من ينتقد ويشير إلى السلبيات والنواقص كان يوصف بالجبان والضعيف بل كان يتّهم بالتجسّس والعمالة وكلّ ما من شأنه إسكاتهم!

فليس الهدف من حفر هذه الأنفاق الاحتماء بها والاختباء فيها إطلاقاً وبأي شكلٍ من الأشكال، فكانت قناني الأوكسجين وأقنعة الغاز تستخدم للحماية من الأدخنة والغازات الخفيفة لا غير.

البكك ضحّت بعدد كبير من شباب الكورد في هذه الأنفاق التي حفرتها، وهذه بعض الأمثلة على هذه الأنفاق للتمثيل لا للحصر:

نفق (گرێ کون-التلّ المثقوب) في جبل گاره، 9 اشخاص.

نفق (حەفت تەبەقێ-سبع طوابق) 12 شخصاً.

نفق الشهيد كريم في (كافيا) 16 شخصاً.  

نفق (سيداري) 10 اشخاص.

نفق (بيرس) 16 شخصاً.

نفق (بەدەڤە) في منطقة الزاب 17 شخصاً.

نفق (مام رشو) 23 شخصاً.

نفق (الشهيد نفال) 6 اشخاص.

نفق (ئيكماله) في جبل متينا 22 شخصاً.

نفق قرية شيلازا 6 اشخاص.

نفق المستشفى في حفتنين 13 شخصاً.

نفق (قراركه هـ) 8 أشخاص.

ما سردناه لم يكن سوى أمثلة قليلة من بين مئات الأمثلة التي ضحّت فيها البكك بأرواح مئات شباب الكورد ووأدت فيها أجساد المئات منهم وهم أحياء!! ولا تنكشف سجلّ الگريلا الذين يقتلون بهذه الطريقة مدى الدهر بل تبقى طيّ الكتمان، ولو اضطرّت البكك للكشف عنها لسبب ما فتقوم وسائل إعلامها بإعلان مقتلهم في جبهة قتال وهمية أو غارة جوية تركية، وتدّعي بأنهم حاربوا لغاية آخر قطرة من دمائهم للتضحية بها وفداء من أجل زعيم البكك المسجون-أوجلان!

المتفجّرات والأدخنة والغازات التي تستخدم لحفر هذه الأنفاق والمغارات، تسبّبت بإصابة المئات من الگريلا بأمراض خطيرة ومزمنة، فلم يبق منهم أحد لم يصب بمرض منذ عام 2015، من جانبها تقوم البكك بمداواتهم بأبسط وصفات العلاج وأسهلها وأهونها!

كما تتّهم من يقول بأنه مريض أو مصاب أو لا يقدر على خوض المعارك، بأنه جبان ويتمّ التشهير به من بين رفاقه ما يتسبّب بخلق ضغوطات نفسية على الگريلا.

عموماً، من خدم في أنفاق الموت، أو التحق حديثاً بصفوف البكك، أو جرحى الگريلا ومصابيهم الذين لا يقدرون على القتال، أو حتّى الأصحاء الذين لم يحملوا ولو يوماً واحداً السلاح أو يستخدموه في حياتهم، وكذلك من أصيب بجروح أو حروق لدى استخدامهم للغازات أو المتفجّرات لدى حفر الأنفاق ولا يقدرون على أي عمل كان، كلّ هؤلاء الشخاص يتمّ إرسالهم من قبل البكك لمنازل الجرحى في مخيّماتها في مخمور وكوباني.

باختصار، اضطرّت البكك لإبقاء كوادرها ومقاتليها في المغارات والكهوف والأنفاق التي حفرتها في الآونة الأخيرة لوقت طويل، نتيجة القصف التركي الكثيف والغارات التركية المتتالية والمستمرة في السنوات الأخيرة، والوضع هذا تسبّب بإصابة العديد منهم بالعديد من الأمراض المزمنة والمستعصية من بينها أمراض نفسية خطيرة بحاجة إلى معالجة فورية وملحّة.

نعم، هذه كانت قصة تراجيدية لأحد عناصر الگريلا من شباب الكورد الذين كانوا يحاولون معرفة حقيقة وطبيعة البكك من قريب، كمثل الفراشات التي حاولت معرفة طبيعة النار، هذا الشاب أدرك جيداً أن البكك ليست سوى عصا بيد أعداء الكورد، غير أن شباب الكورد في صفوف البكك أمثال الفراشة الرابعة والتي احترقت في النار ولم تقدر على العودة لتخبر زميلاتها بطبيعة النار التي أحرقتها وقضت على حياتها، نعم لقد تعلّمت ما تريد أن تعرفه، لكنّها لم تعد قادرة على إخبار الباقي عنه! فهم كذلك وللأسف الشديد اختفوا وفقدوا حياتهم في صفوف البكك ولم يتمكّنوا من العودة لإخبار زملائهم ورفاقهم والناس أجمعين، حقيقة البكك لكي يبتعدوا عنها!!

مقالات ذات صلة