إفلاس الباراديغما الآبوجية

إفلاس الباراديغما الآبوجية

لا تزال النقاشات تُطرح بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا، وانتهت استراتيجيات الانتخابات القائمة على توقّع إلحاق الهزيمة بأردوغان في الجولة الثانية، وممّا لا شك فيه أن نتائج الانتخابات أدت إلى إعادة هيكلة وبروز مناقشات داخلية حادّة لكل حزب سياسي، وأحد هذه الأطراف هو حزب الشعوب الديمقراطي HDP.

خسر حزب الشعوب الديمقراطي مليوني صوت في هذه الانتخابات، وهذه الخسارة الكبيرة بهذا الحجم لم تكن متوقّعة، فكان حزب الشعوب الديمقراطي يتحرّك بمثابة دعامة لـ “تحالف الأمة” في الانتخابات. فبينما كانت جبهتا التحالف (الأمة-الجمهور) تديران حملتهما الانتخابية على أساس العداء القومي للكورد… كان ما يسمّى بالحزب الكوردي (حزب الشعوب الديمقراطي HDP) أيضاً المنشد والمغنّي في هذا المهرجان والاحتفال الفاشي…

فعندما كان الكورد يحلمون بتمثيل قوي في البرلمان التركي، ركّز حزب الشعوب الديمقراطي على الانتخابات الرئاسية، وتجرّد من سلاحه سياسياً بعدم ترشيحه لأيّ مرشّح لمنصب رئاسة الجمهورية، وفقد مهمته كحزب رئيسي وسلّمها إلى الجناح الفاشي.

HDP حزب موجّه لتنفيذ أجندات الغير…

الموقف العدواني القائم على خلاف الدم لحزب العمال الكوردستاني بكك مع أردوغان ترك حزب الشعوب الديمقراطي بدون سياسة، وجعل الخلاف الدموي والعداوة القائمة بين حزب العمال الكوردستاني بكك وأردوغان… جعل الكورد هدفًا لحكومة حزب العدالة والتنمية، ودفع عموم الشعب الكوردي ثمن موقف البكك هذا والذي لا معنى له إطلاقاً، والبعيد كلّ البعد عن منطق السياسة والعقل، فهذه العداوة وخلاف الدمّ بين البكك وأردوغان لم تمنع حزب الشعوب الديمقراطي من ممارسة السياسة فحسب، بل أجبره في الوقت نفسه على المشاركة في تحالف ميرال أكشنار وأميت أوزداغ، بعبارة أخرى، تمّ القضاء على القوة السياسية للكورد في الانتخابات التركية بين تحالفين قوميين تركيين.

إن تكليف حزب الشعوب الديمقراطي والمهام الملقاة على عاتقه علاوة على هيكله التنظيمي جعل من الشعوب الديمقراطي حزباً غير قادر على مقاومة هيمنة ونفوذ البكك على نفسه، كلّ ذلك مردّه إلى أن حزب الشعوب الديمقراطي حزب موجّه لتنفيذ أجندات الغير، ولا يسعنا أن نفهم الوضع القائم ما لم نطّلع على الهدف والغرض من وراء تأسيس HDP ومهمته بشكل صحيح.

الشعوب الديمقراطي هو الذراع القانوني للمشروع المناهض المعادي للكورد

الشعوب الديمقراطي هو المنطلق القانوني للمشروع المناهض للكورد والذي وضعه أوجلان بالشراكة والتنسيق مع الدولة، وذلك من قبل مجموعة العمل المناهضة للكورد (MIT، وزارة الداخلية وآبو) في جزيرة عمرلي-إمرالي، والمخطّط لمنع الازدهار والتطوّر السياسي الذي شهدته كوردستان وجعل الكورد أخوة لأم للأتراك.

فالعملية السياسية والتطور الذي ألقى بظلاله على جميع أنحاء الشرق الأوسط بالتزامن مع قترة الربيع العربي أثارت قلق الدول المحتلّة والغاصبة لكوردستان، لكنّ الدولة التركية اتّخذت بالفعل الاحتياطات لمثل هذا الخطر، حيث غيّرت ملامح القضية الكوردية بالتوازي مع عودة أوجلان لحض الدولة التركية عام 1999، حيث اتّفقت الدولة وأوجلان على حلّ القضية الكوردية بعيداً عن الكورد ودون حضور لهم، لهذا، تمّ تكليف أوجلان بإنشاء الخط النظري والسياسي وأوعز إليه مذّاك!

فتمّ تحويل غرفة أوجلان إلى مكتبة، وكلّف بتغيير العالم الفكري والحمض النووي القومي للكورد، مثلما أنكر ضياء كوكالب في عشرينيات القرن الماضي هويته العرقية، وانحصرت كتاباته الفلسفية حول الطورانية، ولعب دوراً بارزاً في تأسيس الدولة القومية التركية من خلال كتابة مبادئ التركية، كذلك حمل أوجلان هذا العبء وسار على نفس المنوال.

مبادئ التركية بقلم ضياء كوكالب، ومبادئ التتريك بقلم أوجلان

لم يدّخر آبو جهداً في تأدية مهامه، وعمل جيدًا في تحقيق المهمة التي كلّفته بها الدولة، وكتب مبادئ تتريك الكورد تحت عنوان “الباراديغما الجديدة-النموذج الجديد” تمامًا مثل ضياء كوكالب، وقال في باراديغماه الجديدة بأن مشكلة الكورد تكمن في الديمقراطية، وأن الدولة أصبحت سلطوية بسبب الثورات والانتفاضات الكوردية، وأن أتاتورك أراد حلّ المشكلة الكوردية لكن التمرّدات الكوردية حالت دون ذلك! وأن قدم الديمقراطية للدولة مشلولة لهذه الأسباب، وعلى هذا الأساس أنشأ آبو نظريته القائلة بأن الكورد لا يحتاجون إلى دولة وليس ذلك ضرورياً، وأن زمن الدولة القومية قد انتهت صلاحيته! وأن هذه الفترة عافت عليها الزمن، وطوّر من طرحه ونظريته (المشكلة الكوردية ليست مشكلة سياسية أو قومية) ودافع عنها، وبذل جهوده في وضع الكورد في بوتقة التتريك، بل حاول فرض رداء التتريك هذا على عموم الكورد في كافة أنحاء كوردستان بإضافة كلمة (الديمقراطية) إلى بداية أسماء عموم المؤسّسات والمفاهيم والمصطلحات… وقدّم للكورد مزيجاً غير مفهوم، وأعاد تنظيم هيكلة تنظيماته على هذا الأساس…

تمّ تطبيع القسم الأكبر لهذا المشروع التتريكي في الأحزاب والمؤسّسات القانونية، نعم تمّ تطبيعه تدريجياً خطوة بخطوة في أطر (BDP- DTP) لكن التعويل الرئيسي والاعتماد الأساسي كان على حزب الشعوب الديمقراطي HDP، ووفق هذا المشروع، تمّ إسناد كافة المهام في أطر HDP إلى حثالى اليساريين الأتراك، وباستثناء الكورد الوطنيين والكوردستانيين المخلصين، بات لعموم الأطراف السياسية والجماعات الاجتماعية من يمثّلهم في الشعوب الديمقراطي، مشروع HDP الذي أطلق عليه آبو تسمية (كدحي وعملي لـ 20 عاماً) هو في الأساس مشروع لمحو الفكر الكوردي والكوردستاني من على الساحة السياسية الداخلية، وتطهير المجال السياسي والقانوني من الفكر الكوردي والكوردستاني، والمفهوم الذي جعل الكورد على أرض موطنهم كوردستان (أتراكاً من أصول كوردية).

وزير العدل التركي، آنذاك، بشير أتالاي، زفّ الخبر السارّ عن هذا الاتفاق المناهض للكورد الذي أبرمه أوجلان مع الدولة في إمرالي، للكورد، (إمرالي-MIT-وزارة الداخلية) نسّقوا واتّفقوا على مشروع الحزب القانوني، تمّ تسميته باسم حزب الشعوب الديمقراطي HDP، كما تمّ تعيين موظّف الدولة العميقة من اليسار التركي (إرتوغرول كوركجو) رئيساً له.

فتمّ حلّ حزب المجتمع الديمقراطي (DTP) الممثّل الأخير للجبهة السياسية القانونية الكوردستانية، على وجه السرعة، وهكذا قدّم أوجلان مكاسب الكورد وإنجازاتهم قرابين من أجل وجود الجمهورية التركية ووحدتها، وغزا مفاهيم جديدة في علم الاجتماع الكوردي والعالم السياسي المجتمع الكوردي…

موضة “أتراك ذوي أصول كوردية” وأخوة الشعوب

فبدأت موضة (أتراك ذو اصول كوردية) الجديدة، وأصبح قبول الهويات الوطنية والقومية غير التركية مخالفًا لقانون “أخوة الشعوب” وانتهاكاً له. فلم يسمّ الحزب نفسه كوردياً حتّى لا يتمّ انتهاك قانون الأخوة بين الشعوب!

وفيه يعتبر مفهوم “أتراك ذو أصول كوردية” من اختراعات وإبداعات الباراديغما الجديدة. ولم يعد للكورد أية علاقة بمفاهيم مثل الأمة، والدولة، والأرض، والسيادة، والهوية، واللغة، والعَلَمْ، وما إلى ذلك التي تشكّل الانتماء القومي والوطني وتخلقه، وبدلاً من العلم الملوّن تم رفع وتلويح الأعلام الملوّنة والمكوّنة من سبعة ألوان…

تمّ تغيير التركيبة الجماهيرية للكورد، واستبدالها بشيء غريب لا يعرف جنسه وهويته وثقافته وانتمائه، وأدرجت المطالبات الكوردية بالهوية الوطنية والقومية على لوائح الانفصاليين المتمرّدين المستهدفين لوحدة اراضي الجمهورية التركية، واستبدلت بالمفاهيم الاجتماعية مثل الحقوق والقانون، فابتعدوا عن الأسماء والتسميات الكوردية حتّى لا يتمّ انتهاك قانون الأخوة بين الشعوب، وتمّ استهداف نهضة الكورد وتوعيتهم من أجل طيّ صفحات القضية الكوردية وإلى الأبد، وساد بين الكورد اعتقاد أن المشكلة الكوردية وقضيتهم غير موجودة… يبدو أن الأطروحة الجديدة تؤتي ثمارها، نعم، فقد نشأ جيل كوردي جديد يرى أن بلده هو أرض تركيا، وأن العلم التركي هو قيمته الوطنية! فـ “عدم رفع العلم التركي” الذي كان سببًا لإغلاق الأحزاب القانونية الكوردية في تسعينيات القرن الماضي في تركيا، استُبدِل بفترة رفع الشباب الكورد لعلم تركيا على أكتافهم بـ “بفخر واعتزاز”!!

الاستراتيجية من إمرالي والتسويق من HDP

كانت قوة الاستيعاب الذاتي للباراديغما الجديدة قوية بما يكفي لتعليم اللغة التركية لراعي كوردي في جولميرك وهكاري، كما قال آبو. وذلك لأن آخر قلاع الكورد قد سقطت، لم يبق شيءٌ باسم المشكلة أو القضية الكوردية، وهكذا تمّ الوفاء بوعد “سأجعل الكورد دماً جديداً للدولة التركية” ذلك الوعد الذي قدّمه أوجلان لدولته الدولة التركية، وهذا ما تحقّق، وهكذا أثبت ولائه للدولة…

الشريك الوحيد لهذ النجاح الباهر هو حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) وعلى الرغم من أن الفكرة والاستراتيجية نشأت في إمرالي، فقد بذل حزب الشعوب الديمقراطي جهدًا مضنياً لتسويقها في السوق السياسية، ومع ذلك، ورغم الزخم الإعلامي الهائل الذي صرفه حزب العمال الكوردستاني بكك وجيوشه الإلكترونية لتطبيق هذه البارديغما الجديدة وتطبيعها وتقبّلها بين الكور… فقد تمّ رفض هذه الباراديغما الجديدة لعدم توافقها مع النسيج القومي والاجتماعي والثقافي للكورد، ونتائج الانتخابات الأخيرة هو الدليل الأكثر واقعية على إفلاس باراديغما آبو هذه، وبات الكورد يحاولون التخلّص من هذه القيود التي فرضتها البكك كما يحاولون النجاة من مشروع الانصهار في بوتقة التتريك والقائم بوجههم على قدم وساق.

لهذا السبب، رفض الوعي القومي الكوردي ونهضتهم الفكرية، التحالفات والاتّفاقات السياسية لحزب الشعوب الديمقراطي (HDP).

رفض الباراديغما الجديدة التي تحطّ من قدر الكورد وتعتبرهم أي فئة اجتماعية أخرى.

رفض الأهداف والسياسات غير الكوردية والكوردستانية.

رفض وصول الكماليين اليساريين إلى البرلمان بأصوات الكورد.

رفض نظرة الغير إلى الكورد ورؤيتهم لهذا الشعب كمصدر وينبوع لكسب الأصوات فيه فقط، وأظهر نفسه على أنه قوة وإرادة.

رفض الكورد ادّعاءات ومزاعم مفوّضي البكك في رفوف حزب الشعوب الديمقراطي القائلة -على حدّ تعبيرهم- “إذا رشّحنا حجرًا ، فإن الكورد سيصوّتون له!”.

باختصار، يريد الكورد أن يتخلّصوا من سنام التتريك، وصنع السياسة وفق قيمهم الوطنية والقومية الخاصة والعيش ككورد وبكوردايتي…

مقالات ذات صلة