تحذير أمريكي جديد يضع بغداد بين مطرقة واشنطن وسندان الفصائل والميليشيات…

تلقّى وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي اتّصالًا هاتفيًا من وزير الحرب الأمريكي بيت هيغسيث، حمل رسالة تحذير واضحة وشديدة اللهجة من أي تدخل للفصائل والميليشيات العراقية في العمليات العسكرية المرتقبة بالمنطقة.
وقال العباسي في مقابلة تلفزيونية إن الاتّصال، الذي جرى عبر القائم بالأعمال الأمريكي في بغداد، استمر بين 11 و12 دقيقة بحضور رئيس أركان الجيش، ونائب قائد العمليات المشتركة، ومعاون العمليات، ومدير الاستخبارات العسكرية.
وأوضح الوزير أن الجانب الأمريكي أبلغه بوجود “عمليات عسكرية مرتقبة في المنطقة”، محذّراً من “تدخل الفصائل العراقية” من دون الخوض في مزيد من التفاصيل.
واختتم الوزير حديثه بالإشارة إلى أن المسؤول الأمريكي أنهى الاتصال بعبارة تحذيرية قائلاً: “هذا تبليغ أخير لكم، وتعرفون جيدًا كيف سيكون رد الإدارة الحالية”.
قلق سياسي يسبق الانتخابات
يأتي هذا التحذير بينما يستعد العراق لإجراء انتخاباته البرلمانية السادسة منذ عام 2003، وسط أجواء من الانقسام والخلافات الحادة داخل القوى السياسية، ولا سيما داخل الإطار التنسيقي الشيعي المشكّل للحكومة الحالية.
وفي وقت تتأرجح فيه المواقف الأمريكية بين الدعم والتلويح بالعقوبات، تتزايد المخاوف لدى الطبقة السياسية من انعكاس الضغوط الأمريكية على سير العملية الانتخابية وعلى توازن القوى الداخلي.
فبعد أيام فقط من رسالة أمريكية بدت داعمة لخطوات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، جاءت المكالمة الأخيرة لتضيف خطوة جديدة من التوتر، حيث رأى مراقبون أنها تحمل طابعا تهديدياً أكثر منه تشاورياً، خصوصاً أنها تأتي في مرحلة حساسة سياسياً وأمنياً للبلاد ومن قبل وزارة الحرب الأمريكية.
واشنطن تشدّد على نزع سلاح الفصائل
ولم يكن التحذير الجديد منفصلاً عن الإجراءات الأمريكية المستمرة في الضغط على بغداد لنزع سلاح الفصائل والميليشيات العراقية المسلّحة الموالية لطهران، فقد أكّد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، خلال اتصال سابق مع رئيس الوزراء السوداني، على “ضرورة معالجة أنشطة الميليشيات التي تقوض سيادة العراق وتهدّد حياة وأعمال الأمريكيين والعراقيين وتسرق الموارد العراقية لصالح إيران”، بحسب المتحدث باسم السيناتور تومي بيجوت.
كما شدّدت واشنطن على أن استمرار هذه الجماعات في العمل خارج سلطة الدولة “يشكّل خطراً على الاستقرار الإقليمي والمصالح الأمريكية”، ودعت إلى حصر السلاح بيد القوات النظامية فقط.
وفي بيان آخر للمبعوث الخاص للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العراق، مارك سافايا، أكّدت الولايات المتّحدة دعمها لمسار بغداد نحو “الاستقرار والسيادة والازدهار” مع التشديد على ضرورة توحيد القوات المسلّحة تحت راية الحكومة المركزية ومنع أي جماعات مسلّحة من العمل بشكل مستقل.
وقال سافايا إن “العراق بدأ يستعيد مكانته كدولة ذات سيادة تعمل على تقليص التدخلات الخارجية وجمع السلاح بيد الدولة وفتح الأسواق أمام الشركات الدولية لإعادة بناء البنية التحتية الهشة”.
تهديدات بالعقوبات وتجميد الأموال
وفي تموز/ يوليو 2025، حذّرت واشنطن العراق من عقوبات اقتصادية محتملة بسبب ما وصفته بـ “تهريب النفط الإيراني” والعلاقات مع جماعات مسلّحة، ملوّحة بتجميد مئات الملايين من الدولارات من الإيرادات النفطية واستهداف شركة “سومو” العراقية.
وذكرت وسائل إعلام عراقية حينها أن الولايات المتحدة أبلغت بغداد أن استمرار تهريب النفط عبر شبكات عراقية يشارك فيها أفراد وشركات خاضعة للعقوبات، قد يؤدّي إلى إجراءات مشدّدة تشمل تجميد 350 مليون دولار من عائدات النفط، ما لم تتم محاسبة المتورطين.
كما نشرت الخارجية الأمريكية قائمة تضمّ ستة كيانات وأربع ناقلات نفط متورّطة في التجارة غير القانونية.
واشنطن والفصائل العراقية.. علاقة معقدة
يشكّل وجود الفصائل المسلّحة المتحالفة مع طهران أحد أبرز ملفات الخلاف بين بغداد وواشنطن، فهذه الجماعات، التي نشأت خلال سنوات الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، توسع نفوذها بشكل كبير بعد اندلاع الحرب السورية عام 2011، ثم خلال الحرب ضدّ تنظيم داعش بين 2014 و2017.
وخلال معارك ضدّ التنظيم اتّهمت بعض تلك الفصائل بارتكاب انتهاكات ضدّ المدنيين في المناطق السنية، بينما وصفتها الحكومة العراقية بأنها “أفعال فردية”، ومع مرور الوقت، أصبح العديد من هذه المجموعات جزءاً من المشهد السياسي، وشارك ممثلوها في الانتخابات وتولوا مناصب وزارية رفيعة، من بينها وزارات التعليم والعمل.
لكن واشنطن واصلت تصنيف عدد من قادة الحشد الشعبي على القوائم السوداء بموجب قانون “ماغنيتسكي” العالمي، معتبرة أن هذه الخطوة ضرورية للحدّ من نفوذ إيران داخل العراق، وفي أيلول/ سبتمبر 2025، أعلنت الخارجية الأمريكية تصنيف أربع فصائل موالية لطهران كمنظمات إرهابية أجنبية، من بينها ميليشيا “حركة النجباء” و”كتائب سيد الشهداء” و”كتائب الإمام علي”.
وقال وزير الخارجية ماركو روبيو حينها إن هذه الجماعات “نفّذت هجمات على السفارة الأمريكية في بغداد وقواعد تستضيف القوات الأمريكية، مستخدمة أسماء واجهة لإخفاء تورطها”. وأكّد أن “إيران تظلّ الراعي الأول للإرهاب في العالم”.
تحوّلات النفوذ الإيراني في العراق
وبحسب تقرير لموقع “إيران برايمر” التابع للمعهد الأمريكي للسلام، بدأت طهران في نسج علاقاتها مع السياسيين الشيعة العراقيين منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين لجأ كثير منهم إلى إيران خلال الحرب مع نظام صدام حسين.
وذكر التقرير أن الغزو الأمريكي عام 2003 شكّل “فرصة تاريخية لطهران لتحويل بغداد من عدو إلى شريك”، فيما سمح الانسحاب الأمريكي عام 2011 لرئيس الوزراء نوري المالكي بتوسيع نفوذ القوى الشيعية الموالية لإيران.
كما أشار التقرير إلى أن صعود داعش عام 2014 أتاح لإيران تشكيل ميليشيات جديدة وتعزيز حضورها العسكري والسياسي، موضّحاً أن قادة “فيلق القدس” لعبوا دوراً مباشراً في رسم المشهد العراقي، سواء من خلال دعم الحشد الشعبي أو التأثير في تشكيل الحكومات المتعاقبة.
ولفت الموقع إلى أن عشرات الفصائل العراقية تعمل الآن بتنسيق مباشر مع الحرس الثوري الإيراني، ما جعل الولايات المتحدة تحذّر مرارًا من “تحول الحشد الشعبي إلى نسخة عراقية من الحرس الثوري الإيراني”.
نفوذ الفصائل داخل الدولة
وفي آذار/ مارس الماضي، أشار تقرير لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى أن الميليشيات الموالية لإيران نجحت في “الاستيلاء على مؤسّسات الدولة عبر حرب قانونية”، إذ استخدمت القضاء والبرلمان والأجهزة الحكومية لترسيخ نفوذها، بعد أن كانت مهدّدة بالتراجع عقب احتجاجات تشرين واغتيال قادتها عام 2020.
وأوضح التقرير أن تلك الجماعات، المعروفة باسم “المقاومة الإسلامية في العراق” تمكّنت من تحويل خسارتها الانتخابية عام 2021 إلى فوز سياسي بفضل سلسلة من الأحكام القضائية التي مهدت الطريق لتشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني في تشرين الأول/أكتوبر 2022.
وأكّد التقرير أن هذه الفصائل تحوّلت إلى “قوة حاكمة فعلية” تستخدم القوانين والهيئات الرسمية لتكميم الأصوات المعارضة وتعديل التشريعات بما يخدم بقاءها في السلطة، مشيراً إلى أن ذلك التطور يمثّل “تغيير نظام بطيئاً ومدعوماً من إيران”، حوّل مؤسّسات الدولة التي أنشأتها الولايات المتّحدة بعد 2003 إلى أدوات ضدّ مصالحها وضدّ التجربة الديمقراطية العراقية الناشئة.
ضغوط أمريكية متواصلة
رغم تأكيد المبعوث الأمريكي مارك سافايا أن بلاده “تدعم استقرار العراق”، شدّد في الوقت نفسه على أن “لا مكان للجماعات المسلّحة التي تعمل خارج سلطة الدولة”، معتبرا أن استقرار البلاد وازدهارها يعتمدان على وجود قوات موحّدة تحت قيادة واحدة، وأضاف: “بدون هذه الوحدة، ستظل سيادة العراق وتقدمه في خطر”.
هذا الموقف يعكس جوهر السياسة الأمريكية في العراق خلال الأعوام الأخيرة، والتي تقوم على مزيج من الضغط الاقتصادي، والتهديد بالعقوبات، والتحذيرات الأمنية، لتقليص نفوذ الفصائل الموالية لإيران، وضمان بقاء العراق ضمن دائرة النفوذ الأمريكي.