الاستفتاء “ريفراندوم” بين الأعداء في الخارج والخونة من الداخل

لماذا أصرّ جنوب كوردستان على إجراء الاستفتاء؟

مع أن الكورد قد لعبوا دوراً بارزاً في العراق الجديد، وأصبحوا طرفاً فعّالاً في بنائه بعد حرب تحرير العراق، وانهيار النظام البعثي البائد عام 2003، وأرادوا فتح صفحة جديدة مع العراق الجديد وطي الصفحات المأساوية والكارثية للحكومات والأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة ضد الشعب الكوردي المضطهد، وبدء حياة جديدة وأخوية مع المكون العربي على أساس الشراكة والأخوة والمساواة، إلا أن كبار القادة العراقيين الجدد وفي العراق الجديد مارسوا السياسات السابقة لأسلافهم، وأرادوا إذاقة الشعب الكوردي أبشع أنواع الظلم والاضطهاد، وعادوا الشعب المظلوم على مرّ التأريخ أسوء أنواع العداء، وحاولوا بشتى الوسائل والطرق إقصاءه وتهميشه بدأً من عدم الالتزام بمبادئ الدستور العراقي الجديد ومروراً بإقصائه وتهميشه ووصولاً إلى قطع أرزاقهم بقطع موازنة إقليم جنوب كوردستان ورواتب موظفيه.

فقد انتهك ساسة العراق ورؤساؤها الجدد والذين كانت غالبيتهم من المكون الشيعي الدستور العراقي علناً وأمام مرأى السلطة القضائية والعالم، وحاولوا إضعاف الكورد وإقصاءهم وتهميشهم، بل وإخضاعهم وتذليلهم، فأهملوا تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي والمتعلقة بالمناطق الكوردستانية الخارجة عن إدارة الإقليم تحت مبرّرات وحجج واهية، وبدؤوا من جديد بحملات التعريب وإذابة الكورد في بوتقة القومية العربية، وأغرقوا العراق في بحر من الفساد السياسي والمالي، وكانت المشاكل تزداد وتتعمّق يوماً بعد يوم ما بين حكومة جنوب كوردستان والحكومة الإتحادية في بغداد، كما كانت الدول الإقليمية المحتلة لأجزاء كوردستان كتركيا وإيران متعاونة مع بغداد وكبار القادة العرب بتعميق المشاكل بين بغداد وأربيل ورفع وتيرة الخلافات بينهما وعدم السماح بإيجاد الحلول المناسبة.

هنا، يأس الكورد من التوصل لأية حلول مع بغداد، وبالأخص فيما يتعلّق بالمسائل القومية، وخاب ظنّهم بالعراق الجديد، وتيقّنوا جيداً أن العراق لم يبق العراق الذي باستطاعة الكورد الانسجام معها والعيش في كنفها مساواة مع العرب كقوميتين تعيشان كأخوة فيما بينهم، فتراكمت الأسباب على بعضها ما دفعت بكبار قادة الإقليم إلى اتخاذ قرار تأريخي جريء، قرار هو الأول من نوعه في تأريخ الشعب الكوردي، ألا وهو قرار إجراء استفتاء الانفصال عن العراق واستقلال كوردستان.

خونة الداخل.. أرادوا كسر الإرادة وإضعاف الهمم، والتشكيك في كلّ شيء وتحميل الكورد مسؤولية هذا القرار

انبثق قرار إجراء الاستفتاء من غالبية الأحزاب الكوردستانية بإجرائها يوم الـ 25 من أيلول عام 2017، وقد صوّت الشعب الكوردي في جنوب كوردستان بالأغلبية المطلقة بالانفصال عن العراق واستقلال كوردستان، حيث صوّت أكثر من 92% بـ”نعم للاستقلال”، غير أننا سنرى ما الذي فعله الخونة في الداخل، وكيف نسّق الأعداء معهم لإضعاف همم شعب الجنوب وتحطيم إرادتهم العظيمة، وإخافتهم من تبعات إجراء الاستفتاء وتحميلهم مسؤولية ما سيحصل آنذاك، والتشكيك في كلّ شيء وإتاهة الشعب في دوامتهم الخبيثة.

في الـ 7 من حزيران عام 2017، وبمشاركة كافة الأحزاب الكوردستانية في الجنوب عدا (حركة التغيير والجماعة الإسلامية) عقد أوسع اجتماع على نطاق القادة الكورد في الجنوب، وتقرّر فيه إجراء استفتاء الاستقلال في الـ 25-9-2020، وكان قادة الأحزاب الكوردستانية المشاركين في الاجتماع على قناعة تامة بضرورة تحديد يوم لإجراء الاستفتاء “ريفراندوم” لهذا صوّت غالبية القادة الكورد المشاركين في الاجتماع بتحديد هذا اليوم لإجراء الاستفتاء.

برلمان كوردستان يقرّ ويصادق على قرار إجراء الاستفتاء رغم تهديدات الدول الأعداء والمحتلة لكوردستان

بعدها، وفي الـ 15 من أيلول 2017، وفي جلسة تأريخية، صوّت برلمان إقليم جنوب كوردستان على تحديد يوم 25 أيلول 2017 يوم إجراء استفتاء استقلال كوردستان.

فرغم كلّ التهديدات والتحذيرات التي أطلقتها الدول الأعداء والمحتلة لكوردستان (العراق وإيران وتركيا) إضافة لتحذيرات واشنطن والدول الغربية والأوروبية ومخاوفها من إجراء الاستفتاء، رغم كلّ هذا عقد الاجتماع وتم التصويت بالأغلبية المطلقة من أصوات النواب (عدا أصوات نواب حركة التغيير والجماعة الإسلامية) على إجراء الاستفتاء يوم 25 أيلول، إذ شارك في جلسة التصويت 68 نائباً وصوّت 65 منهم بنعم لإجراء الاستفتاء.

بعد تحديد يوم الاستفتاء، بدأ الأعداء التاريخيين للكورد وكوردستان بإحاكة مؤامراتهم، فقاموا بتحركاتهم المعادية لعملية الاستفتاء وهذه القضية القومية والوطنية والقانونية والشرعية للأمة الكوردية، وهذا ما ليس بجديد، فلم ير الكورد من العدو غير العداوة، فتوالت الاجتماعات الثنائية والثلاثية بين كل من تركيا وإيران والعراق، وعارضت هذه الدول المحتلة لكوردستان -وكما دأبت- هذا الحق الطبيعي والشرعي لكوردستان، علماً أن هذا الحق من ضمن الحقوق المشروعة وفق مواثيق ودساتير الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، إذ لأية قومية الحق في تقرير مصيرها، فعارضت هذه الدول بادئ الأمر إجراء الاستفتاء بالتهديد والتحذير، وبعدها خطت خطوات فعلية في مسيرتها المعادية للكورد واستفتائهم، فأغلقت المعابر الحدودية مع جنوب كوردستان وفرضت عليه حصاراً خانقاً، وبعدها حشدت قواتها وجيوشها على الحدود مع جنوب كوردستان والبدء بمناورات عسكرية على الحدود وأبدت عداوتها بشكل علني جراء الاستفتاء ونتائجه.

التجاء المحتل للخونة بعد الخيبة التي لحقته من عدم انثناء شعب الجنوب من قراره

هذه الممارسات والتحركات العدائية للأعداء المحتلين لم تثن شعب الجنوب من المضي قدماً في تقرير مصيره، كما لم تعدل القادة القوميين الوطنيين المخلصين للكورد من تحقيق هدفهم أو إحباط معنوياتهم، بل على العكس زادتهم عزيمة وحماساً ومعنويات، فصمّموا على إجراء الاستفتاء، ولم ير العدو غير باب الخونة ليطرقوه ويلتجؤوا إليه وإجبارهم على معاداة عملية الاستفتاء وإبداء معيّتهم لها في العلن! فأبدى بعضهم عداءهم العلني للاستفتاء مبرّرين بحجج واهية بالية، بينما قام البعض الآخر بإخفاء عداوته لها وأبدى كافة استعداداته لمعاونة المحتل ومعاداة الاستفتاء، فظهر هؤلاء الخونة على شاشات التلفاز في خضم التصويت وسخونة الموقف وأعلنوا دعمهم للاستفتاء وأنهم صوّتوا بنعم للاستقلال ملوّحين بسبابتهم المحبرّة بالأزرق! غير أن ملامح وجوههم لم تخف خباثة نواياهم، فكانت وجوههم تصرخ بأنهم كاذبون، وأنهم إضافة لعدم تصويتهم الإيجابي لاستقلال كوردستان فقد عملوا على إفشال المشروع الاستقلالي لكوردستان ودعوا الناس إلى التصويت بـ”لا” للاستقلال”! ومن هؤلاء الخونة جناح بارز في حزب كبير في جنوب كوردستان، فلم يَدَعْ هؤلاء وسائل إعلامهم الحزبية القيام بالحملة الدعائية لاستفتاء الانفصال واستقلال كوردستان، بل حاولوا بشتى الوسائل إحباط همم الشعب والحدّ من عزيمتهم.

هدف العدو المحتل من وراء البارزاني كان كسر إرادة وعزيمة الشعب المضطهد

خلال هذه الفترة، مورست أشدّ الضغوطات على رئيس إقليم كوردستان والمرجع الكوردي والمقرّر الرئيسي لإجراء استفتاء استقلال كوردستان مسعود البارزاني، فحاولت الدول المعادية للكورد والخونة من الداخل والدول ذات الطابع المصالحي إحجام البارزاني وارتداده من تخطي هذه الخطوة بشتى الوسائل والطرق، عن طريق بعث الرسائل والبرقيات، إبداء البدائل، تأخير العملية، التهديدات والتحذيرات.. أرادوا انثناء البارزاني من إجراء الاستفتاء وانكفائه من هذه القضية القومية والقانونية وتراجعه منها، والحق أنهم كانوا يقصدون من وراء إرضائه كسر إرادة الشعب الكوردستاني وعزيمته التي لا تنحني، أرادوا إرسال رسالة للعالم أن الكورد خاضعون لهم متى ما أرادوا منهم الكفّ عن عمل انكفوا عنه! غير أن مؤامرتهم الدنيئة باءت بالفشل بحكمة وبصيرة البارزاني، فلم يستطيعوا إقناع البارزاني وإرضائه بأية وسيلة!

فأصرّ البارزاني على موقف واحد، نعم رضي بتأجيل موعد إجراء عملية الاستفتاء ولكن بشرط واحد فقط والمتمثل بتنفيذ اتفاق مكتوب ومعلن وبإشراف الأمم المتحدة، وتحديد ميقات لاحق لإجراء استفتاء الاستقلال، أو الإصرار على إجرائها في الوقت المحدّد من قبل برلمان جنوب كوردستان، بعدها، واصل البارزاني حملته لإجراء الاستفتاء، ودعا الشعب الكوردستاني إلى التصويت بـ”نعم للاستقلال” كحق مشروع في تقرير المصير، فاحتشد الناس بالألوف في كلّ تجمع في الحملات الدعائية للاستفتاء، واستقبلوا البارزاني بالورود والهتافات القومية والوطنية، وكادت عزيمتهم تحرق الأرض والسماء، ورغم هذه المعنويات العالية والعزيمة المتوقدة والحماس المنعدم النظير، فقد كانت حملة “لا” تسير برعاية الخونة الانتهازيين بائعي الأرض والوطن والنفس وكأنهم صمّ بكم عمي!

والعبارة التي لا تفارق آذان الشعب الكوردستاني دائماً وأبداً هي عبارة البارزاني والتي كانت إجابة لكلّ الدعوات بالتراجع عن قرار الاستفتاء، عندما قال: (لستُ ممّن يخيب ظن شعبي وأفعل ما يخجلني تجاهه!) نعم، هذه كانت إجابته وردّه الواضح والعلني لكلّ من أراد إيقاف مشروع حق تقرير المصير في استفتاء الاستقلال لكوردستان.

مقالات ذات صلة