بين عراقٍ يُنهب وإقليم كوردستان يُبنى: من المسؤول؟

بين عراقٍ يُنهب وإقليم كوردستان يُبنى: من المسؤول؟

معلقاً على امتناع بغداد عن ارسال رواتب موظفي إقليم كوردستان من قبل الحكومة الاتّحادية في بغداد، ومحاولات عرقلة تنمية ونهوض إقليم كوردستان، يقول كاتب كوردي، إنه رغم عيشه في قلب بلد يطفو على بحر من الثروات، إلّا أن المواطن العراقي يعيش على هامش الكرامة، مثقلاً بأعباء الفساد، وتردّي الخدمات، وغياب الأمل، يعاني من نقص الكهرباء، وتلوّث المياه، وانهيار البنية التحتية، في مشهدٍ يُلخّص تناقضًا صارخًا بين غِنى الموارد وفقر الإدارة.

الكاتب سامان رشید زنگنە، كتب في مقال “لكن على بعد بضع مئات من الكيلومترات، وتحت نفس السماء، يبدو المشهد مختلفًا. ففي إقليم كوردستان، ورغم التحديات السياسية والاقتصادية والضغوط المركزية، تظهر ملامح نهضة عمرانية وخدمية نسبية، جعلت من مدنه، خاصة أربيل والسليمانية، بيئة أكثر استقرارًا وأمانًا، سواء للمواطنين أو المستثمرين…”.

ويضيف “هذه المفارقة بين الواقع المنهار في وسط وجنوب العراق، والنمو النسبي في كوردستان، ليست مجرّد اختلاف في الموارد أو الظروف، بل انعكاس مباشر لاختلاف جوهري في نمط الإدارة، ومقدار الفساد، وغياب أو حضور الإرادة السياسية…”.

الكاتب سامان رشید زنگنە سلّط في مقاله الضوء على هذه المفارقة الوطنية، عبر تفكيك بنية الفساد في العراق، خاصة في قطاعات النفط والمنافذ الحدودية، ومقارنة ذلك بما تحقّق في إقليم كوردستان. كما ناقش في مقاله كيف تحوّل النجاح الإداري في إقليم كوردستان إلى مصدر تهديد لمنظومة الفساد في بغداد، بدل أن يكون نموذجًا يُحتذى به.

“النفط في العراق: ثروة منهوبة تحكمها شبكات الفساد…”

النفط هو شريان الاقتصاد العراقي، والمصدر الرئيسي لإيرادات الدولة، لكنّه في الوقت ذاته أحد أبرز تجليات الفساد المنهجي.

وفقًا لتقارير منظمة الشفافية الدولية، يُصنّف العراق ضمن الدول الأكثر فسادًا في العالم، حيث احتلّ المرتبة 154 من أصل 180 دولة في مؤشّر مدركات الفساد لعام 2023.

ومثال على فساد منهجي في هذا القطاع هو قضية فضيحة عقد تطوير حقل الرميلة النفطي عام 2019، حيث تمّ الكشف عن وجود عقود مشبوهة تسبّبت في خسائر بمئات الملايين من الدولارات، وارتبطت بأسماء كبار المسؤولين وأطراف حزبية، ما أثار جدلًا واسعًا حول غياب الرقابة والشفافية.

كما أشار تقرير هيئة النزاهة العراقية إلى أن مئات المشاريع النفطية تعاني من التلكؤ أو الفشل بسبب سوء الإدارة والفساد، ما أدّى إلى إهدار مليارات الدولارات من المال العام.

أما هيومن رايتس ووتش، فقد وثّقت فسادًا ممنهجًا في عقود التصدير والتكرير، وأكّدت أن شبكات حزبية ومسلّحة تدير هذا القطاع الحساس، ممّا يجعل محاربة الفساد فيه أقرب إلى المستحيل في ظلّ غياب إرادة سياسية حقيقية.

المنافذ الحدودية: موارد الدولة تحت سيطرة السلاح والجماعات

المنافذ الحدودية، التي يُفترض أن تكون شريانًا اقتصاديًا للدولة، تحوّلت إلى بوابات فساد محمية بالسلاح والنفوذ.

فوفقًا لتقرير لجنة النزاهة البرلمانية، فإن نحو 70% من إيرادات المنافذ لا تدخل خزينة الدولة، بل تُدار خارج الأطر القانونية من قبل جماعات متنفذة.

تقرير البنك الدولي قدّر خسائر العراق السنوية بسبب التهريب والفساد الجمركي بأكثر من 7 مليارات دولار، في ظلّ تفشي الرشوة والابتزاز وغياب الرقابة المؤسّسية.

خدمات تنهار في وسط وجنوب العراق

الفساد انعكس بوضوح على حياة الناس اليومية، خصوصًا في وسط وجنوب العراق، حيث أصبح انهيار الخدمات سمة دائمة.

في قطاع الكهرباء، أشار ديوان الرقابة المالية الاتّحادي إلى أن أكثر من 60% من المشاريع المموّلة لم تكتمل أو كانت وهمية، رغم إنفاق ما يزيد عن 100 مليار دولار منذ عام 2003.

أما في قطاع المياه، فقد أفادت منظمة اليونيسف في تقريرها لعام 2022 أن أكثر من 60% من سكان الجنوب يفتقرون إلى مياه شرب آمنة، بسبب الفساد في إدارة مشاريع المياه والبنى التحتية.

وفي الصحّة، ذكر مركز كارنيغي أن ضعف الإنفاق العام وسوء الإدارة تسبّبا في تدهور النظام الصحي، وسط تفشٍ لعقود الصيانة الوهمية والمعدات غير الصالحة للاستخدام.

إقليم كوردستان: نموذج نسبي في ظلّ التحديات…

رغم التحديات السياسية، وقطع الميزانيات، والتجاذبات مع الحكومة الاتّحادية، تمكّن إقليم كوردستان من تحقيق استقرار نسبي في تقديم الخدمات الأساسية، لا سيما في الكهرباء والمياه والبنية التحتية.

من أبرز المشاريع التي تعكس هذا النجاح هو مشروع محطة الكهرباء الغازية في أربيل، التي تمّ تدشينها عام 2021 بطاقة إنتاجية تزيد على 500 ميغاواط، ما ساهم في تقليل انقطاعات الكهرباء وتحسين جودة الخدمة بشكل ملحوظ. كما استقطب الإقليم استثمارات أجنبية من شركات متعدّدة الجنسيات في قطاع الطاقة والسياحة، ممّا يعزّز من فرص التنمية الاقتصادية وخلق فرص عمل للشباب.

ميزانية إقليم كوردستان: معاناة مستمرة رغم النجاح

رغم هذه النجاحات، ظلّ إقليم كوردستان يعاني من مشكلة مزمنة تتعلّق بتأخّر وصرف غير كامل لحصته من الميزانية الاتّحادية، وهو ما شكّل ضغطًا إضافيًا على قدرته في تقديم الخدمات وتنفيذ المشاريع.

في عام 2023، كانت الحصة المقرّرة للإقليم حوالي 16.5 تريليون دينار عراقي (12.5 مليار دولار)، لكنه استلم فقط نحو 7.1 تريليون دينار، أي أقلّ من نصف الحصة المستحقّة، بفجوة مالية تجاوزت 9.4 تريليون دينار (حوالي 7.1 مليار دولار).

في عام 2024، خُصص للإقليم حوالي 11.6 تريليون دينار (8.5 مليار دولار)، واستلم منها 10.75 تريليون دينار فقط، مع استمرار وجود فجوة نحو 823 مليار دينار (600 مليون دولار)، اضطر الإقليم لتغطيتها من الإيرادات الذاتية.

في عام 2025، بالرغم من الصعوبات، تمكّن الإقليم من استلام رواتب موظفيه لأربعة أشهر فقط، في ظلّ استمرار التوترات مع الحكومة الاتّحادية وتأخّر صرف الميزانية.

بغداد تردّ بقطع الرواتب: العقوبة بدل التقدير

بدل أن يُقابل نجاح كوردستان بالدعم والاحتضان، لجأت الحكومة الاتّحادية إلى سياسات عقابية، أبرزها قطع رواتب موظفي الإقليم، ممّا أدّى إلى أزمات اقتصادية واجتماعية متكرّرة.

هذه السياسة ليست خلافًا تقنيًا أو قانونيًا كما يُروّج، بل أداة ابتزاز سياسي ضمن صراع طويل حول تقاسم الموارد والنفوذ. والهدف الخفي: تحجيم أي تجربة ناجحة قد تُحرج منظومة الفساد المركزية.

خاتمة: “عُقدة النجاح” في العقل السياسي العراقي

في بلدٍ يُعاني من أزمات مزمنة، يُفترض أن تُحتضن النماذج الناجحة وتُستنسخ، لكن ما يحدث في العراق هو العكس. فنجاح إقليم كوردستان في تقديم الخدمات والبنية التحتية، يُقابل بعدائية وتشكيك وعرقلة ممنهجة.

ذلك لأن نجاح الإقليم يُشكّل تهديدًا للطبقة الفاسدة في بغداد، فهو يفتح أعين المواطنين في الجنوب، ويدفعهم للتساؤل: لماذا نحرم نحن من الكهرباء والماء والمستشفيات بينما يتمكن غيرنا من ذلك في ظلّ نفس الظروف؟

هنا يتحوّل النجاح إلى “تهمة” والتنمية إلى “مؤامرة” والإصلاح إلى “تمرد على المركز”.

وفي ظلّ هذا الواقع، لا مستقبل لعراق مستقر دون كسر هذه الازدواجية، والاعتراف بأن الفساد ـ وليس كوردستان ـ هو الخطر الحقيقي على وحدة العراق ونهضته.

مقالات ذات صلة