الكورد وسط معادلة الشرق الأوسط

من القضية إلى الكيان
سمكو عبد العزيز
لم تعد القضية الكوردية مسألة مظلومية تاريخية أو هوية ثقافية مضطهدة فحسب، بل أصبحت مسألة سلطة غير مكتملة. المشكلة الكوردية اليوم ليست في أن العالم لا يعترف بحقوق الكورد، بل أن الكورد لم يحوّلوا هذا الحقّ إلى قدرة، ولم يحوّلوا القدرة إلى سيادة. ففي النظام الدولي، لا توجد حقوق بلا حامل سياسي، ولا توجد سيادة بلا مؤسّسات، ولا توجد مؤسّسات بلا احتكار منظم للقوة داخل إطار قانوني. كلّ ما عدا ذلك خطاب أخلاقي بلا وزن سياسي.
القومية، في معناها السياسي، ليست حبّ الأمة بل القدرة على إدارتها. وهنا يبدأ الخلل الكوردي ويكمن.
فعلى الرغم من أن الكورد موزعون بين أربع دول، لكنهم موزعون بين أكثر من أربع استراتيجيات متناقضة. فهناك من يريد الدولة فورًا بلا موازين، وهناك من يريد ما بعد الدولة بلا دولة أصلًا، وهناك من يريد التعايش داخل الدولة القائمة بلا أفق قومي، وهناك من يريد إدارة الواقع بلا تحويله. والنتيجة: لا دولة، ولا ما بعد دولة، ولا حتى إدارة مستقرة طويلة الأمد.
ففي إقليم كوردستان، يمثّل الرئيس مسعود بارزاني الاتّجاه القومي الذي يسعى إلى بناء كيان سياسي معترف به داخل منطق النظام العالمي والمنظومة الدولية، وذلك عبر التراكم المؤسّسي والتفاوض والشرعية. وهذا الاتّجاه واقعي، بطيء ومكلّف سياسيًا، لكنّه الاتّجاه الوحيد الذي أنتج شكلًا من أشكال الكيان. ويمثّل نيجيرفان بارزاني ومسرور بارزاني محاولة تحويل هذا الاتّجاه من رمز إلى إدارة، من خطاب إلى مؤسّسات ومن حلم إلى سياسة يومية قائمة.
في المقابل، يمثّل عبد الله أوجلان وجميل بايك اتّجاهًا نقديًا يرى في الدولة القومية أصل المأساة لا حلّها، ويطرح بدلًا عنها نموذج “ما بعد الدولة”. وهذا الاتجاه فلسفي مهم، لكنّه سياسيًا يعيد إنتاج اللا–كيان، ويترك الكورد بلا عنوان قانوني في نظام لا يعترف إلا بالعناوين. ويمثّل مظلوم عبدي وصالح مسلم محاولة تطبيق هذا الاتّجاه في روجآفا كوردستان، فكانت النتيجة نموذجًا أخلاقيًا في الحرب، لكنّه هشّ في السياسة لأنه بلا سيادة، وبلا اعتراف، وبلا أفق قانوني.
أما بافل طالباني فيمثل الاتّجاه التوافقي الواهم داخل الدولة العراقية، الذي يسعى إلى حماية الحقوق الكوردية عبر الشراكة لا عبر الصدام. هذا الاتّجاه يحفظ الاستقرار، لكنه لا ينتج كيانًا، بل يؤجّل السؤال القومي بدل أن يحسمه.
هذه الاتجاهات ليست أخطاء أخلاقية، بل خيارات استراتيجية. لكن لا يمكن أن تكون كلّها صحيحة في الوقت نفسه. الكيان لا يُبنى بأربع استراتيجيات متناقضة، بل بإستراتيجية واحدة متماسكة.
وهنا يجب قول الجملة الصعبة بوضوح:
الاتّجاه الوحيد الذي يخدم القضية الكوردية الآن وفي المستقبل هو الاتّجاه الذي يبني كيانًا سياسيًا مؤسسيًا، لا الذي ينتقد الكيان، ولا الذي يتعايش مع غيابه.
الكيان لا يُطلب، يُنتزع بالتراكم المؤسسي. ولا يُنتزع بالسلاح فقط، بل بالاقتصاد، القانون والشرعية، وبالقدرة على جعل الآخرين بحاجة إليك. ومن لا ينتج وظيفة، لا ينتج اعترافًا.
القومية التي لا تنتج دولة تتحوّل إلى ذاكرة. والذاكرة التي لا تتحوّل إلى سياسة تتحوّل إلى نوستالجيا. والنوستالجيا لا تحرّر شعوبًا.
الكورد لا يحتاجون إلى مزيد من الشعر، بل إلى مزيد من التنظيم. ولا إلى مزيد من الرموز، بل إلى مزيد من المؤسّسات. ولا إلى مزيد من الخطاب، بل إلى مزيد من القدرة.
وهنا يكمن السؤال القومي الحقيقي:
هل يريد الكورد أن يكونوا شعبًا مُحِقًّا أم كيانًا فاعلًا؟
الحقّ بلا قوة يُنتهك، والقوة بلا قانون تُدان، وما يحتاجه الكورد هو الجمع بين الاثنين.
القضية الكوردية لن تُحسم أخلاقيًا بل سياسيًا. ولن تُحسم سياسيًا إلا حين تتحوّل من قضية إلى كيان، ومن خطاب إلى وظيفة، ومن هوية إلى سيادة. ومن لا يفعل ذلك سيبقى خارج التاريخ، مهما كان على حقّ.