الولايات المتحدة وإيران في العراق .. ماذا بعد التحول الاستراتيجي الجديد؟

الولايات المتحدة وإيران في العراق .. ماذا بعد التحول الاستراتيجي الجديد؟
  • الجزء الأول

  • اللواء الركن متقاعد: ماجد القيسي

العراق ساحة الحروب المباشرة

منذ سقوط نظام صدام إثر حرب التحرير التي شنّتها الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما عام 2003، أصبح العراق ساحة مباشرة لمواجهات عظيمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وأتباعها.

هذه الأحداث شهدت حالات مد وجزر، فقد تصاعدت الأحداث بوتيرة متسارعة منذ أن شهد العراق موجة من الاحتجاجات نهاية العام الماضي ولغاية يومنا هذا، كما وشهد فصلاً جديداً وغير مسبوق منذ الأيام الأولى من بدايات العام الحالي بعد حادثة إغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني والذي كان يُعدّ الشخصية الثانية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ونائب هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في الثالث من كانون الثاني 2020، وبعدها قامت إيران بالثأر لمقتل قياديها البارز حيث قامت بقصف قاعدتين عسكريتين للقوات العسكرية في الأنبار وأربيل، وفي وقت آخر من شهر آذار تعرّضت قاعدة التاجي لقصف أدى لمقتل جنديين أمريكين وآخر بريطاني مما دفعت بالقوات الأمريكية إلى ردّ الصاع صاعين أو ثلاث عندما استهدفت 5 مواقع لحزب الله العراقي في جرف الصخر وكربلاء.

فعلى ما يبدو ان التصعيد بين واشنطن والفصائل المسلحة في العراق مستمر في ظل شبه غياب لقوة الدولة العراقية امام قوة ونفوذ الفصائل الحليفة لإيران والتي قد تجد نفسها امام خيار فرض الامر الواقع في ظل انسداد سياسي منذ استقالة حكومة عادل عبد المهدي والذي شهد عهده مستوى عالي من خرق للسيادة العراقية، سواءً كانت خارجية متمثلة بالعمليات العسكرية الامريكية التي تقوم بها ضد الجماعات المسلحة او قيام الاخيرة بخروقات داخلية امنية من خلال استهداف المصالح والقوات الامريكية واصبح العراق الخط الاول والمساحة المثلى للمواجهة بين الطرفين وبحسابات المنطق والمصالح الاستراتيجية والمؤشرات الواقعية فإن المواجهة لن تكون قصيرة الأمد ومحدودة الأثر.

فالإدارة الامريكية تبدو وكأنها تضايق إيران من اجل استعادة مكانتها في العراق وتعتبره أحد مرتكزات استراتيجيتها في المنطقة، وإيران التي استحوذت على نفوذ واسع في العراق وتحاول الحفاظ علية والطرفان يدركان ان الهزيمة في العراق تعني خسارة أكبر في المنطقة. وهذا بدوره سوف ينعكس على الاستقرار في العراق والذي يشهد ازمات اقتصادية وصحية وسياسية مما يؤجل استقرار العراق، وبانتظار ما تؤول اليه مسارات الصراع بين إيران وامريكا يبقى العراق منطقة رمادية.

التحول في الاستراتيجية الايرانية

تعمل إيران على ادارة عمليات غير تقليدية خارج حدودها لمواجهة خصومها في المنطقة من خلال ما يعرف بـ(استراتيجية الحرب غير المتكافئة) والتي تهدف الى معالجة اختلالات القوة بينها وبين الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها، كما تعتبر هذه الاستراتيجية هي الاقل كلفة والاكبر تأثيراً وباستخدام ادوات منتشرة في منطقة واسعة يصعب الحاق الاذى بها بسهولة.

توازن القوة الفعالة

لقد حققت ايران توازن القوة الفعالة من خلال تلك القدرات المتمثلة بحلفائها المحليين في اليمن ولبنان وسوريا والعراق التي يمكن نشرها بسهولة وقدمت لها ميزة عسكرية وسياسية في الصراع لا يمتلكها خصومها، وان هذه الاستراتيجية ضاعفت قوتها في جميع أنحاء المنطقة التي انحرفت طيلة السنوات الخمس الماضية بشكل واضح نحو إيران وان استخدامها لشركائها المحليين اثبتت فعاليتها لمعالجة بعض الاختلالات في القوة وغياب بعض قدرات الحرب التقليدية لديها ومنحها طوقاً دفاعياً عميقاً ومواقف متقدمة تهدد خصومها في المنطقة  كما ساعدت ايران في  نفوذها السياسي في الدول ذات الأهمية الحاسمة للدفاع عنها وخصوصاً العراق وسوريا.

ادوات استراتيجية الحرب غير المتكافئة

1- العمليات السرية عبر الوكلاء غير المعترف (الحرب بالوكالة):

تعتبر العمليات التي ينفذها وكلاء غير معروفين لخصومها من اكثر العمليات تأثيراً واقل كلفة سياسياً بالنسبة لها، والتي يمكن انكارها من قبل ايران وحرمان اعدائها من التبرير لاستهدافها، مثلما حدث من استهداف ناقلات في ميناء الفجيرة الاماراتي في حزيران 2019 وضرب منشآت نفط البقيق في السعودية في سبتمبر 2019 او عندما قامت مجموعة مجهولة وغير معروفة في العراق تسمى (عُصبة الثائرين) باستهداف معسكر التاجي في 11 آذار 2020  الذي ادى الى مقتل جنديين امريكيين وآخر بريطاني.

2- شبكات الوكلاء (الفصائل المسلحة):

انشأت إيران شبكات من الفصائل المسلحة وبأعداد كبيرة ومجهزة بالذخيرة والاسلحة المتقدمة وتعتبر أبرز ادوات استراتيجية الحرب غير المتكافئة، تمتاز هذه الفصائل بالتدريب والتسليح وهي ذات دوافع ايديولوجية (دينية) حيث يعتبر العامل الديني أحد أقوى العوامل في عقيدتها العسكرية ومشبعة بالحماس الثوري، وقد استطاعت ايران ومن خلال فيلق القدس بقيادة قاسم سليماني قبل اغتياله من نقل عقيدتها العسكرية الى هذه الفصائل في سوريا ولبنان واليمن والعراق الذي يعتبر الدولة الاكثر انتشاراً لهذه الفصائل والتي يبلغ عددها 44 فصيل مرتبط بإيران ويؤمنون بولاية الفقيه وابرز هذه الفصائل حزب الله العراقي وحركة النجباء وكتائب سيد الشهداء وعصائب اهل الحق والتي اشرفت على تدريبها قيادة القوة 1000 التي ترتبط بالقوة 3600 التابعة لفيلق القدس المسؤولة عن تدريب جميع شركاء ايران في المنطقة.

3- مأزق الاستراتيجية الايرانية بعد سليماني

شكلت عملية استهداف الجنرال قاسم سليماني وابو مهدي المهندس والتي صنفت على انها (انتقامية) صدمة لطهران وللفصائل الموالية لها، لأنها استهدفت مركز الثقل للتركيبة البنيوية لقيادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري، والمسؤول عن ادارة وقيادة شبكة واسعة من الوكلاء حيث كان سليماني مهندس الاستراتيجية الايرانية في الاقليم المجاور على المستوى العسكري والمخطط لحروب الوكالة والعمليات العسكرية غير التقليدية.

الاستراتيجية الايرانية بعد اغتيال سليماني تمر بمأزق كبير نتيجة:

  • الفراغ الكبير الذي تركه غياب سليماني في قيادة فيلق القدس المسؤول عن العمليات الخارجية وصعوبة ايجاد البديل الذي يمكنه املاء الفراغ والذي يتمتع بمؤهلات قاسم سليماني والخبرة في ادارة ملفات معقدة.

  • تجد الفصائل المسلحة في العراق ومنظومة الحشد الشعبي صعوبة كبيرة في ايجاد بديل لأبو مهدي المهندس الذي كان ضابطاً لإقناع الفصائل، وكان يسيطر على العديد من الجوانب العسكرية والادارية والمالية.

  • اجبار إيران على اعادة النظر في طرق ادارة شبكة الوكلاء والى ايجاد آليات قيادة وسيطرة وهذا يحتاج الى وقت طويل مما يعرض بناء نفوذها والحفاظ عليه في المنطقة الى الخطر في ظل وجود تحديات اخرى تزامنت مع اغتيال قائد فيلق القدس شكلت عوامل ضغط إضافية وأبرزها:

    • الاحتجاجات الشعبية في العراق وتحديداً في المنطقة الوسطى والجنوبية من العراق ذات الاغلبية الشيعية والتي كانت تراهن عليها إيران في الحفاظ على نفوذها حيث انقلبت هذه القاعدة ضدها.

    • صعوبة التمويل لشبكة وكلائها في المنطقة نتيجة سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها الولايات المتحدة الامريكية مما قد يؤثر على عملياتها.

    • انقسام في البيت الشيعي وخصوصاً بين الاحزاب والكتل وتفكك التحالفات حول ترشيح رئيس وزراء جديد لحكومة عراقية والخشية من تكليف شخصية بعيدة عن محور إيران.

النقطة الرخوة

مقتل  الجنرال قاسم سليماني  اعتبرت نقطة الفشل الاقوى لإيران حيث تسببت إزاحته من المعادلة بخلق ثغرة  كبيرة في الاستراتيجية الإيرانية لأنه كان مسؤول عن ملفات متعددة وبالنظر للأهمية الاستراتيجية لدور فيلق القدس الايراني باعتباره المسؤول عن العمليات الخارجية، كان سليماني يرتبط بعلاقات مباشرة مع المرشد الأعلى علي خامنئي وهي ميزة منحته حضورا في المجال السياسيوالعسكري الإيراني، وكان يعتبر الرجل الثاني بعد خامنئي متجاوزًا القادة الكبار في الحرس الثوري وهذا ما جعل يُنظر الى قوة القدس على انها (القوة الخاصة لذراع المرشد).

يحتكر سليماني جميع اسرارها وإدارة عملياتها في الخارج رغم وجود قادة بجانبه لكن كانت مسؤولياتهم محددة بجغرافية لم يتمكنوا من الاطلاع على جميع الملفات الشاملة لفيلق القدس.

فبعد عملية اغتيال سليماني أعلن المرشد الأعلى علي خامنئي عن تعيين العميد إسماعيل قاآني قائدًا جديدًا لفيلق القدس وهي خطوة استباقية لتخفيف تأثيرات غياب سليماني ومنع اي خلاف بين قادة الحرس الثوري وفيلق القدس لخلافة سليماني.

التغير في الأسلوب

تسعى إيران بعد اغتيال قائد فيلق القدس ايجاد مقاربات جديدة تتعلق بقمة هرم القيادة لفيلق القدس بعد ان أدركت ان اختزال القيادة بشخص واحد هو خطاْ استراتيجي وضعها في مأزق عسكري وسياسي عن طريق تطوير استراتيجية جديدة للإشراف على ما أطلق عليهم المرشد الأعلى علي خامنئي (مقاتلون بلا حدود).

توزيع قيادة القوى

وهو احد الأساليب التي سوف تعتمد عليها ايران لتطوير الاستراتيجية الجديدة ونظراً لأنه لا يوجد قائد واحد يمكنه أن يحل محل «سليماني» فإن شبكة الوكلاء الإيرانية سوف يتم إدارتها الآن بواسطة مجموعة من قادة فيلق القدس ورغم تعيين اسماعيل قاآني لقيادة فيلق القدس  وعلى الرغم من خبرته في أفغانستان وباكستان يفتقر قاآني إلى الخبرة في لبنان وسوريا ويعتقد ان الجنرال حسين زادك حجازي سوف يكون الى جانب اسماعيل قاآني ويعود لقيادة القوة 2000 (قيادة الشام) والتي تضم لبنان وسوريا، وهو يمتلك خبرة عميقة في هذه الدول وكان قد عمل مع سليماني في سوريا ولبنان واشرف على قيادة الشام.

أما في العراق وهو محور الصراع الايراني الأمريكي تبدو الأمور اكثر تعقيداً لعدم وجود بديل لنائب رئيس الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس الذي كان يغطي ادوار كبيرة ويمتاز بالقيادة والسيطرة على غالبية الفصائل ويجيد هندسة التوازنات وإدارة المخاطر ورغم تكليف عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك) الا ان بعض الفصائل القتالية التي تتبع مرجعية النجف تنظر الى  عبد العزيز المحمداوي تكريساً لولاية الفقيه على اعتباره كان مسؤولاً كبيراً في كتائب حزب الله العراقي، لكن في سياق مجريات الأحداث وقيام بعض قادة الفصائل ولقاءاتها مع اسماعيل قاآني فأن  ملف ادارة شركاء ايران في العراق سوف يتحول اليه بالتدريج، في وقت يقوم أمين عام حزب الله حسن نصر الله بدور كبير  لمساعدة فريق القيادة الجديد وحثه لـ «محور المقاومة» لتكثيف العمليات لإجبار القوات الأمريكية على الخروج من المنطقة في وقت  تصاعدت العمليات الهجومية على القوات الامريكية بعد وفاة سليماني في العراق.

ان الهدف من توزيع القيادة للقوى هو لتجنب سيناريو اغتيال سليماني وتقليل المخاطر وتجنب فقدان السيطرة على الوكلاء.

تجزئة الملفات

كانت مهمة قاسم سليماني ليست محددة بالجانب العسكري، وإنما كان له دور سياسي كبير فهو كان يجمع السياسة والدبلوماسية مع المسار العسكري والأمني ورغم الخبرة الواسعة التي امتلكها لكن في نفس الوقت (النقطة الرخوة) التي اصابت الاستراتيجية الإيرانية ووضعتها في مأزق عندما اغتالته واشنطن.

وغالبا ما كانت سياسية إيران في دول الجوار تلتصق بالجنرال سليماني ولا يمكن الحديث عنها دون ربطها به، وقد شعرت إيران بالقلق على تصدع استراتيجيتها لذا لجأت الى تجزئة الملفات للمسارين العسكري والسياسي.

وأصبح فريق القيادة للقوى مهتم بالجانب العسكري وأما الجانب السياسي فقد تحول الى رئيس مجلس الامن القومي الايراني على شمخاني الذي قام بزيارة في ٨ آذار 2020 الى بغداد وقبيل تكليف عدنان الزرفي من اجل تجاوز الخلافات بين الأطراف الشيعية حول تكليف رئيس للحكومة.

ان جميع عناصر القيادة الجديدة سواء كانت عسكرية او السياسية ترتبط بشخص المرشد الأعلى علي خامنئي وهذا يعني ان تخصيص جميع الموارد البشرية والمادية والمالية سوف يتم ادارتها بشكل مركزي من طهران.

مقالات ذات صلة