الجزء الأول
بقلم… ماهر حسن
العربي في سوريا لا يطلب منه أبدًا التخلّي عن عروبته ليكون سوريًا، ولا يشترط عليه تعديل لغته أو إعادة تعريف نفسه بناءً على هوية أخرى، والانتماء إلى الهوية العربية جزءًا من البديهيات التي تشكل نسيج الوطن السوري، ويعتبر أمرًا طبيعيًا ومقبولًا في قلب هذا الوطن المتنوع. ولكن، إذا كانت هذه هي الحالة بالنسبة للعربي، فلماذا يطلب من الكورد والمسيحيين، السريان، الدروز، الآشوريين وغيرهم أن يذوبوا في الهوية العربية؟ لماذا يفرض عليهم التخلّي عن هويتهم، وتاريخهم، وثقافتهم من أجل أن يعتبر جزءًا من هذا الوطن؟ لماذا ينظر إلى تمسّك كلّ مكون بهويته القومية كتهديد أو تطرّف، بينما يعتبر تمسك العربي بعروبته علامة على الوطنية؟
العربي يولد عربيًا دون أن يكون ذلك عائقًا أمام مواطنته، لكنه حين يكون كورديًا أو مسيحيا، دروزا، أو آشورياً وغيرهم، يقال له إن عليه أن يكون “أولًا” سوريًا، وكأن هويّته القومية تشكل تهديدًا يستدعي التصحيح أو الإلغاء. لكن، أليس العربي سوريًا أيضًا دون أن يتخلّى عن هويته القومية؟ فلماذا يكون هذا الأمر طبيعيًا عند العرب، لكنه مرفوض عند غيرهم؟ فلماذا إذًا يطلب من هؤلاء في سوريا أن يندمجوا قسرًا في هوية ليست هويتهم، وأن يعتبر لغتهم وتاريخهم مجرّد تفاصيل ثانوية لا مكان لها في المشهد الوطني؟
هنا تكمن المفارقة المؤلمة، أولئك الذين يطالبون الكورد أو غيرهم بالتخلّي عن هويتهم القومية لا يرون في تمسّكهم بعروبتهم أي تهديد لوحدة الوطن، بل يعتقدون أن العروبة هي الأساس الذي يجب أن يبني عليه أي تعريف للهوية الوطنية. لكن إذا كانت العروبة هي المعيار الوحيد للوطنية، فما هو الحال مع المكونات الأخرى؟ إذا كانت الهوية العربية مقدّسة، فلماذا تصبح الهوية الكوردية شيئًا مشبوهًا، بل وحتى خطرًا على كوكب الأرض؟
هذه المفارقة تكشف عن خلل جوهري في مفهوم المواطنة المتبع. فالمطالبة بأن يخضع الكورد هويتهم وتاريخهم لإعادة تعريف وفقًا للمقتضيات العروبية هي شكل من أشكال الإقصاء والتهميش، بل وتطويق حريتهم في التعبير عن انتمائهم. في حين يسمح للآخرين – العرب وغيرهم – بتأكيد هويتهم بشكل حرّ دون اعتراض أو شكّ، يصبح الكورد مطالبين بمحو ذواتهم كي يعترف بهم في وطنهم.
التناقض هنا يتعدّى مجرّد مسألة هوياتية، إنه يعكس رؤية أحادية للوطنية تعتبر التنوع عائقًا بدلاً من أن تكون عنصر قوة. لكن الحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح هي أن الوحدة الوطنية لا تتحقّق عبر مساعي محو الهويات الأخرى، بل من خلال احترام التعدّدية التي تشكّل غنى هذا الوطن. إذا كانت العروبة جزءًا لا يتجزأ من سوريا، فإن الكوردية أيضًا جزء من هذا المزيج المتعدّد. وبدلاً من فرض هوية واحدة تلزم الجميع بالانصهار فيها، ينبغي أن ينظر إلى التنوع القومي كأصلٍ من أصول الوطن، وأن يعامل الجميع بنفس القدر من الاحترام والاعتراف.
الوطن ليس مجرّد مكان جغرافي، بل هو فكرة مشتركة بين أفراده الذين يعبّرون عن انتمائهم بكلّ الوسائل المتاحة لهم. وإذا كانت هذه الفكرة تتمحور حول إلغاء الآخر أو إجباره على التماهي مع هوية واحدة، فإنها تصبح فكرة مشوّهة، بعيدة عن جوهر المواطنة الحقيقية.
الأغرب من ذلك أن البعض يعتبر مجرّد الاعتراف بأن سوريا دولة متعدّدة القوميات أمرًا مرفوضًا، وكأنّه تهديد لوحدة البلاد. لكن، هل الوحدة تعني إنكار الحقائق أم استيعابها؟ الدول التي تحترم تنوعها هي التي تبقى متماسكة، بينما الدول التي تفرض هوية واحدة بالقوة، لا تنتج سوى التوتر والصراعات المستمرة.
سوريا ليست دولة عربية فقط، بل هي دولة متعدّدة القوميات، والتعددية ليس تنازلًا ولا خطرًا، بل هو الطريق الوحيد نحو دولة عادلة ومستقرة. أما محاولة طمس كلّ ما هو غير عربي باسم الوحدة، فهي ليست سوى وصفة لتعميق الانقسامات، لأنها تجعل من المواطنة مفهومًا انتقائيًا، يمنح للبعض دون الآخرين. وإذا كان البعض يخشى أن يؤدّي الاعتراف بالحقوق القومية للكورد إلى تقسيم البلاد، فليتذكر أن ما يقسم الأوطان ليس التنوع، بل إنكار هذا التنوع والتعامل معه وكأنه مشكلة يجب التخلص منها
المواطنة ليست عقد إذعان يفرض على مكون دون آخر. فمن غير المقبول أن يطلب من أي مواطن أن ينكر هويته من أجل الحصول على حقوقه في وطنه، بل المفترض أن تكون الهوية الخاصة بكلّ فرد جزءًا من النسيج الوطني الذي يضمّ الجميع. هل أصبح حقّ المواطن في التعبير عن نفسه وحماية هويته القومية مجرّد ترف يمنح وفق معايير انتقائية؟ إذا كانت “الهوية العربية” هي المعتمدة كأساس للمواطنة، فذلك ليس إلا تهميشًا لكلّ ما هو غير عربي في سوريا، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام مزيد من الانقسامات، ويُفرغ مفهوم الوطن من مضمونه الحقيقي.
الجواب الوحيد الذي يقدّمه البعض لهذه القضية هو “لأن الدولة عربية” وهنا يكمن الخلل الجذري في هذا التفكير. فما معنى أن تكون الدولة “عربية”؟ هل يقصد بذلك أن كلّ مواطنيها يجب أن يتبنوا العروبة حتى على حساب هويتهم؟ إذًا ماذا عن باقي المكونات التي تشكّل النسيج السوري؟ إذا كان القبول بالهوية العربية كشرط للمواطنة هو الجواب الوحيد، فهذه ليست وطنية على الإطلاق، بل هي مشروع إقصائي لا يمكن أن يفضي إلا إلى مزيد من التمييز والاضطهاد.
الوطنية لا تكون بوضع شروط تعسفية تفرض على المواطنين التخلّي عن هويتهم، بل بتوسيع مفهوم الانتماء ليشمل جميع المكونات القومية والدينية. الوطن ليس “حكرًا” على قومية واحدة، بل هو تجمع شامل لكلّ من يحمل جنسيته، بغض النظر عن هويته الثقافية أو القومية. ومن يعتقد أن الوطن لا يمكن أن يحتمل تنوعًا حقيقيًا، فهو يسيء إلى مفهوم المواطنة ذاته، ويضعف من أساس الدولة الوطنية.
إذا كان من المنطقي أن يحافظ العربي على هويته القومية دون اعتراض، فمن المفترض أن يسمح للكورد ولغيرهم من القوميات بأن يعبّروا عن هويتهم بكلّ فخر واحترام.
المواطنة الحقيقية لا تكون انتقائية، ولا يمكن أن تبنى على إنكار الآخر أو إذابته قسرًا في هوية لم يخترها. إذا كانت سوريا وطنًا للجميع، فيجب أن يكون الكوردي قادرًا على أن يكون سوريًا كما هو، لا كما يريد له الآخرون أن يكون.