الدستور التركي… وحدة الجمهورية أم إنكار للوجود؟

الدستور التركي... وحدة الجمهورية أم إنكار للوجود؟

سمكو عبد العزيز

تنصّ المادة الأولى من الدستور التركي على أن “دولة تركيا دولة جمهورية” فيما تحدّد المادة الثانية منه خصائص وسمات الجمهورية، فتنصّ على ” الجمهورية التركية جمهورية ديمقراطية علمانية اجتماعية، تقوم على سيادة القانون؛ في حدود مفاهيم السلم والعلم والتضامن الوطني والعدالة، مع احترام حقوق الإنسان، والولاء لقومية أتاتورك، وتقوم على المبادئ الأساسية الواردة في الديباجة”.

أما فيما يخصّ المادة الثالثة منه فهي تنصّ على أن أراضي الجمهورية وحدة لا تتجزّأ كما تحدّد لغة الجمهورية الرسمية وعلمها ونشيدها الوطني وعاصمتها، فتنصّ على “المادة 3- دولة تركيا بشعبها وأرضها وحدةٌ لا تتجزأ، لغتها هي التركية، وشكل علمها محدّد في القانون وهو علم أحمر بهلال أبيض ونجمة، نشيدها الوطني هو “نشيد الاستقلال” وعاصمتها أنقرة”.

هكذا تبدأ المواد الأولى من الدستور التركي، معلنة أن الوحدة بوصفها مبدأ وأصلًا غير قابلة للمسّ والتغيير أو التعديل، ليس كمفهوم سياسي، بل كـ “مقدّس قومي-وطني” لا يقبل التشكيك أو التعدد أو التنوّع أو التجزئة والتقسيم أو التفكيك.

فيا تُرى: ما المقصود بالوحدة هنا؟

فهل هي تعبير عن السيادة، أم صيغة وتبرير لغلق الباب أمام كلّ أشكال الاختلاف الثقافي والقومي؟

وهل يمكن للكوردي أن يشعر بأنه جزء من هذه الوحدة، أم أنّه مجرّد “مواطن بالصدفة” يُطلب منه الصمت كي لا يُتهم بالانفصال؟

وحدة الجمهورية كمفهوم سلطوي لا تعاهدي-تعاقدي

تنبثق الوحدة في الأنظمة الديمقراطية وتولد من رحم “اتفاقية طوعية-حرّة” بين شعوب متعدّدة ومختلفة والتي تشكّل كيان الدولة، لا من انصهار واندماج قسري داخل قومية واحدة.

لكن المواد الأولى من الدستور الأساسي التركي تتعامل مع الدولة كما لو كانت شيئًا مكتملًا منذ الأزل، كأنها “كائن ووجود إلهي” لا يحقّ لأي مكوّن أن يعيد النظر فيه أو يعدّل هذه المواد.

هذه المادة ليست تعريفًا للدولة، بل مؤشّر لسلطة أحادية هاجسها وخوفها من التعدّد والاختلاف.

الوحدة هنا ليست وفاقًا طوعيًا، بل قيد لغوي ودستوري فُرض بعد حروب الهوية الكبرى، وصيغ في زمن ما بعد الإمبراطورية العثمانية، حينما أراد مصطفى كمال أن يخلق على أنقاض الإمبراطورية أمة نقية وعرقاً نقياً خالصاً… فصنع أمة مبنية على الإنكار، لا على التعدّد والتنوّع والاختلاف…

الكورد داخل “الجمهورية الواحدة”: ليسوا مواطنين…

أيا تُرى كيف سيكون شعور الكوردي حين يُفرض عليه أن ينتمي لدولة تُعلن في المادة الأولى من دستورها أنها “جمهورية للأتراك” وحدهم؟!

وهل سيشعر في يومٍ ما أن هذه الوحدة ستحتضن لغته، ثقافته، تراثه معتقداته، انتفاضاته وخريطته التاريخية؟

أم سيشعر أنها وحدة “الهوية التركية” المفروضة عليه باسم الحداثة والعصرية؟

فالكوردي في الدولة التركية ليس جزءًا من العقد الجمهوري، بل هو وجود هامشي منسي مهمل متغافل عنه متجاهل لحقوقه طالما التزم الصمت واختار السكوت، أو كما قال الفقيه القانوني والدستوري والفيلسوف السياسي الألماني كارل شميت: “من لا تحدّده الدولة كصديق، فهو العدو بالضرورة.”

نعم، الكوردي ليس عدوًا، لكن المادة الأولى من الدستور التركي تجعله كذلك وتفرض عليه هذا، لأنها لا تفتح الباب لأي تصوّر آخر ورؤية أخرى عن “الوطن”.

النقد الفلسفي: من أين تستمد “الوحدة” مشروعيتها؟

من الناحية الفلسفية، لا تُبنى الشرعية على القوة، بل تُبنى على المعرفة والاعتراف، كما قال هيغل.

والوحدة ليست هي المقدسة بذاتها، بل بقدرتها على احتواء التعدّد والتنوّع وتقبلّهما دون نفي أو إنكار.

لكن حين تتحوّل الوحدة إلى عقيدة قومية عنصرية، تصبح أداة قمع ووسيلة له لا صيغة وفاق.

المادة الأولى في الدستور التركي تُحوّل الدولة إلى صنم هوياتي-الهوية لا إلى عقد مدني طوعي.

والكوردي، الذي لا يشارك في صياغة هذا العقد، يُطلب منه أن يقسم بالولاء للدولة… أي أن يُنكر وجوده وذاته، أو أن يُتهم بالخيانة.

أوجلان وهوس ووهم اجتياز الدولة القومية

يحاول عبد الله أوجلان أن يتجاوز هذه المعادلة عبر نظريته وأطروحته “الأمة الديمقراطية”، فهو يرى أن الدولة القومية نفسها فكرة فاشلة ومتخلّفة ويجب هدمها.

لكن النقد هنا ضروري:

كيف نستطيع إلغاء القومية وهدمها في دولة قومية تفرض ذاتها كـ دستور؟

وكيف نطالب الكورد بالتخلي عن مشروعهم القومي، بينما الدولة لا زالت تُحكم بقوة المادة الأولى من دستورها والتي ترى الجمهورية “واحدة” لا تحتمل التعدّد ولا تقبل التنوّع؟

طرح أوجلان هذا يتجاهل حقيقة أن الكورد لم يُنجزوا ولم يحقّقوا بعد مشروعهم القومي، بل ولم يُعترف بهم كشعب وأمة أصلًا، فكيف يُطلب منهم أن يقفزوا ويجتازوا إلى ما بعد حقبة القومية، في الوقت الذي لم يُمنحوا بعد الحقوق القومية؟

هذه خطوة فلسفية غير أخلاقية، تُعيد إنتاج الإنكار من جديد، لا تحلّه.

نحو وحدة تعاقدية طوعية لا أيديولوجية

لكي يشعر الكوردي بأنه جزء من الدولة، يجب أن تنبثق “وحدة الجمهورية” من المعرفة والاعتراف، لا عن أمر فوقي مفروض.

وهذا يتطلب:

– إعادة تعريف الوحدة كـ “فضاء سياسي مدني” من جديد.

– الاعتراف بالكورد كشعب له حقوق.

– إعادة تعديل وصياغة الدستور من منطق تعاقدي، لا أيديولوجي قومي.

الوحدة الحقيقية لا تُبنى على المصادرة والاستيلاء، بل على التعدّد والتنوّع

الخاتمة-المحصلة: الوحدة التي لا تعترف بك، هي وحدة ضدّك.

المادة الأولى من الدستور التركي بصيغتها الحالية، ليست دعوة للوحدة، بل هي استمرارية وديمومة للإنكار.

وأي خطاب يتجاوز المسألة القومية باسم “الحداثة والعصر الجديد” دون الاعتراف وتجاهله، فهو شريك في الاستلاب والخطيئة والجرم.

الكورد ليسوا انفصاليين حين يطالبون بالحلّ التعدّدي والتنوّعي ضمن إطار الدولة.

بل الدستور هو الانفصالي، لأنه يرفض فكرة التعدّد والتنوّع في إطار وحدة وهمية.

مقالات ذات صلة