حملة أميركية لنزع السلاح النوعي لفصائل وميليشيات الحشد الشعبي
في إنذار شديد اللهجة، نقلت واشنطن عبر قنوات أمنية وسياسية رفيعة رسائل واضحة وصريحة إلى بغداد بضرورة التخلّص الفوري من الأسلحة النوعية التي تمتلكها فصائل وميليشيات الحشد الشعبي، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة والصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، ملوّحة بخيار تدميرها عبر ضربات جوية دقيقة إذا لم تتحرك الحكومة العراقية بشكل عاجل.
كشفت أربعة مصادر أمنية وسياسية مُقرّبة من الحكومة في بغداد، في إفادات متطابقة لـ “العربي الجديد” عن رسائل أميركية نقلت إلى بغداد أخيراً بضرورة التخلّص من “السلاح النوعي” للفصائل العراقية التابعة إلى الحشد الشعبي المتمثّل بالطائرات المسيّرة والصواريخ متوسطة المدى، أو سيكون خيار تدميرها بضربات جوية مطروحاً.
وتأتي هذه المعلومات بشأن تفكيك السلاح النوعي على عكس ما يجرى تداوله عن ضغط أميركي لحلّ الفصائل العراقية المسلّحة الحليفة لإيران أو دمجها في الجيش، ضمن ما بات يُصطلح عليه “حصر السلاح بيد الدولة”.
وكان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قد أعلن، في تصريح صحافي أول من أمس السبت، أنه لا يمكن التهاون في تطبيق قضايا حصر السلاح بيد الدولة وسلطة القانون ومكافحة الفساد، مؤكّداً أن ذلك لا يعني استهداف جهة أو فرد. وشدّد على أنه “في ظلّ الوضع المستقر، لا مبرّر لوجود أي سلاح خارج المؤسّسات” مؤكّداً أن “الحكومة التزمت في برنامجها بإنهاء وجود التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، بعد انتفاء الحاجة إليه”.
وتمتلك نحو عشرة من الفصائل والميليشيات العراقية المسلّحة طائرات مسيّرة تصل مدياتها إلى مئات الكيلومترات، واستعملتها عدة ميليشيات وفصائل في مهاجمة مواقع داخل الأراضي الإسرائيلية أبرزها ميناء إيلات، وحيفا والجولان السوري إلى جانب استهداف قواعد أميركية شرقي سوريا، ضمن “جبهة الإسناد” التي أطلقتها هذه الفصائل ضدّ إسرائيل، فضلاً عن صواريخ كروز “الأرقب” التي تبنت استخدامها في عمليات قصف مماثلة.
وأبرز هذه الفصائل العراقية هي ميليشيا “كتائب حزب الله” وميليشيا “حركة النجباء” و”الإمام علي” وميليشيا “كتائب سيد الشهداء” و”البدلاء” و”أنصار الله الأوفياء” وميليشيا “عصائب أهل الحق”، وشكّلت أخيراً ما يُعرف بـ”جبهة المقاومة الإسلامية”.
وصدرت تصريحات عن قادتها تؤكّد أنها فصائل مقاومة إسلامية، وموقفها لا يُمثل “الحشد الشعبي”، في محاولة للنأي بهذا العنوان الجامع لأكثرَ من 70 فصيلاً مسلّحاً عن عملياتها خارج العراق.
وعلى مدى عدة أيام، قدّمت أربعة مصادر مطّلعة في بغداد، أحدهم مسؤول أمني بارز، معلومات بدت متطابقة بشكل كبير، تؤكّد مطالبة الولايات المتّحدة العراق بالتخلّص من السلاح النوعي للفصائل المسلّحة، المتمثّل بالطيران المسيّر والصواريخ ذات المديين المتوسط والبعيد، والذي يُشكل تهديداً أمنياً على الدول القريبة من العراق، في إشارة إلى إسرائيل.
تدمير الأسلحة النوعية لدى فصائل الحشد الشعبي
وقال عضو في البرلمان العراقي ومُقرّب من رئيس الحكومة إن الأميركيين معنيون بالدرجة الأولى بموضوع الطائرات المسيّرة والصواريخ التي تمتلكها الفصائل، موضّحاً أن الطلب الحالي هو تدميرها أو قيام الحكومة بمصادرتها.
وأوضح النائب، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه بسبب حساسية المعلومات، لـ “العربي الجديد” أن “الرسائل الأميركية في هذا الملف واضحة. هم غير معنيين ببقاء هذه الفصائل بطابع محلّي في العراق أو حتى دمجها ــ على الأقل بالمرحلة الحالية ــ وما يهمّ الآن هو أمن قواعدهم (الأميركيين) وأمن إسرائيل، والمسيّرات والصواريخ التي تمتلكها الفصائل مثار الجدل الحالي، والفصائل ترفض حتى مناقشة هذا الملف مع الحكومة الحالية”.
وأكّد مسؤول أمني رفيع المستوى في بغداد لـ “العربي الجديد” هذه المعلومات. وقال، في اتّصال هاتفي طالباً هو الآخر عدم الإشارة إلى اسمه، إن “الاميركيين يستعملون أساليب ضغط عديدة في هذا الجانب، ومنها أن إسرائيل ستهاجم مواقع المسيّرات والصواريخ في حال لم يجرَ تدميرها أو تفكيكها، وأنها (واشنطن) لا يمكن أن تستمر بمنعها تنفيذ تهديداتها داخل الأراضي العراقية” واصفاً قضية المسيّرات والصواريخ ضمن ترسانة الفصائل العراقية بأنها “أولوية” لدى الاميركيين ويعتبرونها تهديداً مباشراً لقواعدهم في المنطقة.
مجموعة مطالب أميركية
ونقل سياسي ونائب أسبق عن مصدر قريب من رئيس الحكومة مجموعة من المطالب الأميركية، بينها إنهاء عمل مديرية التصنيع الحربي التابعة لـ “الحشد الشعبي”، والتي تسيطر عليها فعلياً عدة فصائل فاعلة في المشهد العراقي، كلّها حليفة لإيران، وكذلك إنهاء سيطرة الفصائل العراقية على عدة مناطق مانعة سكانها من العودة إليها، وإخضاعها لسيادة الدولة، مثل جرف الصخر والعويسات والعوجة وغيرها. وأعرب عن تخوّفه من أن الضغط المتزايد على هذه الفصائل العراقية قد يدفعها إلى افتعال مشاكل أمنية وطائفية داخل العراق تحت عناوين وذرائع مختلفة، وهو ما تتخوّف منه حكومة السوداني، على غرار قصف منشآت الطاقة في إقليم كوردستان، واشتباكات ميليشيا “كتائب حزب الله” مع الجيش في منطقة السيدية جنوبي بغداد الشهر الماضي، لذا وصفه السياسي بأنه “ملف حسّاس وغير سهل على هذه الحكومة، أو التي تأتي بعدها”.
وسبق أن اعترفت الدولة الإسرائيلية، مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بمقتل جنديين إسرائيليين وإصابة 24 آخرين نتيجة هجوم تعرّضوا له في الجولان السوري، بطائرة مسيّرة أطلقتها جماعة “المقاومة الإسلامية في العراق” التي تتألف من فصائل عدة، أهمها “كتائب سيد الشهداء” و”كتائب حزب الله” و”أنصار الله الأوفياء” و”كتائب الإمام علي” و”النجباء”.
لكن الفصائل العراقية أوقفت عملياتها منذ مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، بفعل ضغوط الحكومة وقوى فاعلة في المشهد السياسي العراقي، تجنّباً لاعتداءات إسرائيلية تطاول العراق.
وأمس الأحد، استدعت وزارة الخارجية العراقية السفير البريطاني في بغداد عرفان صديق وأبلغته “اعتراضها الشديد” على تصريحاته التي أدلى بها الجمعة الماضي في لقاء مع محطة فضائية عراقية، قال فيها إن “الحاجة إلى الحشد الشعبي في العراق انتفت بعد هزيمة الإرهاب، وإن ما ينطبق على التحالف الدولي ينطبق على الحشد أيضاً”.
وقال أستاذ الدراسات الأمنية في معهد الدوحة مهند سلوم، إن “واشنطن تُولّي أهمية قصوى لنزع سلاح الفصائل العراقية النوعي، خاصة بعد استخدامه ضدّ قواعد أميركية (مثل التنف وحقل العمر في سوريا) وضدّ مدن إسرائيلية مثل إيلات وحيفا. وهذا السلاح النوعي هو الذي يكسر معادلة الردع التقليدية ويحوّل هذه الفصائل العراقية من أدوات ردع محلّي إلى تهديد إقليمي عابر للحدود. لذلك، فإن الضغط الأميركي يركز أولاً على تحييد هذه القدرات، حتى لو استمر وجود الفصائل العراقية من حيث الشكل أو الوجود السياسي”.
وبيّن أنه “مع ذلك، فإن واشنطن لا تكتفي بسحب السلاح النوعي، بل تدفع تدريجياً نحو إنهاء البنية العسكرية المستقلة لهذه الفصائل، والهدف هنا ليس نزع السلاح فقط، بل إعادة ضبط منظومة الأمن العراقية بحيث تكون حكراً على الدولة، وضمن هياكل تمكن مراقبتها وتدريبها من شركاء غربيين. وهذا يتماشى مع نموذج إصلاح قطاع الأمن الذي تعتمده واشنطن منذ 2003”.
وأضاف سلوم أن “واشنطن تعلم أن التفكيك الكامل دون معالجة البيئة السياسية والاقتصادية التي تُنتج هذه الفصائل العراقية (ضعف الدولة، الفساد، التهديدات الأمنية) قد يؤدّي إلى إعادة تشكّلها بأسماء جديدة، لذلك فاستراتيجيتها مزدوجة: تفكيك القدرات النوعية بأقرب وقت ممكن، ثمّ احتواء البنية التنظيمية تدريجياً”.
وأكد أنه “بعبارة أخرى، نزع السلاح النوعي هو أولوية عليا للولايات المتّحدة بسبب التهديدات المباشرة للقوات الأميركية وإسرائيل، لكن هذا لا ينفي أن الهدف النهائي هو القضاء على البنية العسكرية المستقلة للفصائل الموالية لإيران، والفرق في التوقيت والوسائل، لا في الأهداف”.
وكانت رواتب أفراد “الحشد الشعبي” دخلت مطلع الشهر الماضي دائرة الضغط الأميركي على الحكومة، مع تأخّر استحقاق دفع رواتبهم عبر مصرف الرافدين الحكومي العراقي، وفقاً لما أكّدته يومها عدة مصادر سياسية وبرلمانية وأخرى من داخل “الحشد” وقتها. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتأخّر فيها حكومة بغداد بدفع رواتب ما يفوق عن 200 ألف عنصر من أفراد “الحشد الشعبي” إذ كان من المقرّر أن تصل إليهم عبر مصرف الرافدين الحكومي، ومن خلال حساباتهم في شركة “كي كارد” العراقية المحلية.
وفي حين تحدّثت شخصيات مقرّبة من “الحشد” في تصريحات وقتها عن “خلل فني” في نظام الدفع، فإن ميثم الزيدي، قائد “فرقة العباس” وهي فصيل مسلّح تابع لمرجعية النجف ومقرّب من المرجعية الدينية ضمن ما يُعرف بـ”حشد العتبات”، كان ظهر في تسجيل مصوّر على مواقع التواصل الاجتماعي، قال فيه إن السبب المباشر لتأخر صرف رواتب منتسبي “الحشد” هو إنذار رسمي من وزارة الخزانة الأميركية، وُجّه إلى الشركة المسؤولة عن دفع رواتب “الحشد”، وهي شركة “كي كارد” ما دفعها إلى الانسحاب وإبلاغ مصرف الرافدين و”هيئة الحشد الشعبي” بذلك.
واشنطن تريد تفكيك الفصائل والميليشيات العراقية الموالية لطهران
من جهته، قال مختار الموسوي، النائب عن الإطار التنسيقي الحاكم في العراق، لـ “العربي الجديد”، إن “الولايات المتّحدة لا تريد نزع سلاح الفصائل العراقية الثقيل والنوعي، بل هي تعمل على تفكيك كلّ هذه الفصائل وإنهاء أي وجود لها، وهذا الأمر صعب جداً، ولا يمكن تحقيقه، خاصة أن تلك الفصائل موجودة قبل الحشد الشعبي ولا نعتقد أنها سوف تسلّم أياً من أسلحتها رغم كلّ الضغوط والتهديدات الأميركية”.
وبيّن الموسوي أن “قضية دمج الحشد الشعبي مع الداخلية أو الدفاع أمر مستبعد جدّاً، والهدف الأميركي من هذا الأمر هو إنهاء أي دور مهم ورئيسي للحشد الشعبي حتى تُضعف العراق من الناحية الأمنية والعسكرية، وهذا الأمر بكلّ تأكيد لم ولن نقبل به، ولا نخشى أي ضغوط وتهديدات أميركية مهما كانت”.
وأكّد أن “تسليم سلاح الفصائل العراقية أمر يعود حصراً لقادة تلك الفصائل، ولا يمكن لأي طرف سياسي أو حكومي الضغط على تلك الفصائل. إن الطائرات المسيّرة أصبحت موجودة بشكل طبيعي داخل العراق حتى لدى بعض تجار المخدرات، ولا نتوقع وجود نية للفصائل بأن تسلم أياً من أسلحتها خلال المرحلة المقبلة”.