الجزء الأول
من أصدر قرار الأول من حزيران؟
في الأول من حزيران عام 2004 أعلنت البكك وبشكل رسمي إنهاء هدنة وقف إطلاق النار التي أعلنتها في أيلول عام 1999، وعند ملاحظة تصريحات البكك الرسمية دائماً ما نجدها بهذه العبارات: (الدولة التركية لا تستجيب لنداءاتنا ودعواتنا للسلام لهذا نعلن عن الحرب الدفاعية!) وقبل نشر هذا التصريح بثلاثة أشهر صرحت تركيا بأن: البكك لم تترك أنشطتها العسكرية كما ويحاولون القيام بأعمال وأنشطة أخرى! فعند النظر إلى هذه العلاقات المتأزمة بين الدولة التركية والبكك من بعيد قد يظن الرائي أن المفاوضات بلغت طريقاً مسدوداً وأن العهود والمواثيق قد إنتهكت، وأن الدولة التركية لم تستجب للقاءات السلام والاستقرار، فتظهر مثل هذه النتائج بادئ الأمر إلا أن عام 2003-2004 كان أهم الأعوام بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط!
بسقوط النظام المركزي البعثي في العراق وانتهائه، تم بناء نظام جديد وما زالت العملية مستمرة، فهنا نتساءل: بعد سقوط وانهيار العراق عام 2003 والبدء بإعمارها من جديد لغاية 2004، لماذا تزامنت قرارات البكك هذه الفترة؟ لماذا أعلنت الحرب آنذاك؟ فلو نظرنا لهذه الأحداث والعلاقات بينها بعيداً عن الأطر الحزبية والشعارات البراقة وحللناها لاتضح لنا أن قرار الأول من حزيران ليس مقاومة في وجه الأعداء وضده، فجوهر هذه الخطوة التي تخطتها البكك في الأول من حزيران باعلان الحرب من جديد نستطيع التلخيص لثلاثة نتائج:
الأولى: قرار الأول من حزيران لم يكن من طرف واحد، بل صدر القرار بتنسيق مشترك وممنهج من رئيس حزب العمال الكوردستاني عبد الله أوجلان والدولة العميقة داخل الجمهورية التركية.
الثانية: الهدف من قرار انهاء هدنة وقف إطلاق النار وإعلان الحرب من جديد كان لفسح الطريق وتمهيده أمام تركيا للتدخل في الشأن العراقي والتطورات الحاصلة على الساحة العراقية، وبجانب هذا فإن القوات الدولية ستكلف حكومة إقليم كوردستان بمهام جليلة وعظيمة، وهذا التدخل سيتيح لـ(البكك وتركيا) وحسب إرادتهم ورغبتهم تمكين قواتهم وتثبيتها في عمق جنوب كوردستان سياسياً وعسكرياً ما يتيح لهم السيطرة والتحكم بهذه التطورات.
الثالثة: تموضع وتمركز كوادرها في منطقة مثل قنديل بعيداً عن الحدود التركية وتمكينهم هناك بين جنوب كوردستان وشمالها والسيطرة على المناطق الحدودية وإدامة تنظيماتها وأعمالها ونضالها وأنشطتها التنظيمية والعسكرية في المنطقة، إذ من السهل التنقل بين الجنوب والشمال، وهذا سيكون واقعاً تأريخياً قريب المدى ومفروضاً على وضع كوردستان، وما تحدثنا عنه من هذه النقاط الثلاث حدثت وبأدلة واثباتات، فلو يتعايش الإنسان مع واقع ما بعد عام 1999 ويسايره لوجد هذا الوضع بكل سهولة!
ما الذي حدث عام 2003؟
كانت الحرب العراقية في الألفية الثانية نظاماً جديداً، بحيث يستطيع من يثبت وجوده على الساحة العراقية إثبات نفسه على الساحة السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، شهد العالم هذه الحقيقة، فالكل حاول بشكل من الأشكال التدخل في الوضع العراقي، فإيران سيّرت هذه السياسة على شيعة العراق، وأرادت تركيا مسايرة هذه السياسة على الأقلية التركمانية في العراق غير أنه وبسبب قلة أعدادهم في العراق وتفرّقهم على رقع مختلفة وعدم امتلاكهم أية قوة إقتصادية لم تقدر تركيا على فعل هذا الشيء، ولم يقدر البرلمان التركي على إصدار قرار بهذا الشأن خلال جلسته في الأول من آدار عام 2003 بشأن التدخل في الشأن العراقي، فشعرت الدولة العميقة في تركيا بأن موقف البرلمان التركي يعطي دلالة مفادها عدم استطاعة تركيا إثبات نفسها على الساحة السياسية المستجدة في الشرق الأوسط والتحكم فيها! ولتبرير التدخل التركي في الشأن العراقي بحثت الدولة العميقة عن سبل أخرى وجديدة تضفي على تدخلها الشرعية الدولية لهذا صوّبت نظرتها نحو حزب العمال الكوردستاني ومررت خططها ومشاريعها من خلاله!
من تسبب بجلب واحضار الدولة التركية للعراق وجنوب كوردستان، البكك أم الحزب الديمقراطي الكوردستاني؟
بعد عام 2004 شهدت الساحة العراقية تقدماً ملحوظاً للأنشطة التركية وتدخلها بحيث عقّدت الأوضاع وأزمتها أكثر فأكثر، وفي هذا السياق تتبادل التهم بين حزب العمال الكوردستاني البكك والحزب الديمقراطي الكوردستاني البارتي، وقد كُشفت حقيقة الكثير من الأحداث السرية والمخبأة ضمن تسريبات ويكيليكس، وفي جزء من هذه الوثائق كانت بعض مواقف رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني ورئيس إقليم كوردستان آنذاك مسعود البارزاني، منها: (حسب الخطة التي أعدتها الولايات الأمريكية للعراق أن تركيا ستخضع المناطق التي يقطنها سنيو المذهب في العراق لهيمنتها وسيطرتها، وهي المناطق المحيطة بمدينة الأنبار غير أن مسعود البارزاني تبنى موقفاً عدائياً حاداً وشديداً تجاه هذه المؤامرة وحاول بشتى الطرق إفشال هذه الخطة وقال بأنه حتى لو شاركت القوات التركية أمريكا ودخلت العراق معها فإنهم كالبارتي سيعتزون باعتبار تركيا دولة محتلة ويرونها هكذا، وقال بأن دخول تركيا للعراق ستجبرنا على إقامة حرب مفتوحة معها حرب البقاء أو الفناء! فهذا ما يعيد إلى الأذهان الخضوع لسلطة الإمبراطوية االعثمانية!) فقد تم رفض المشاركة والتعاون التركي في عملية حرب تحرير العراق من قبل الحزب الديمقراطي الكوردستاني
وتجاه النوايا التركية هذه بدأت عملية يقظة وتوعية بين أبناء شعب جنوب كوردستان ضد النوايا التركية، وقد نُظمت تظاهرات عارمة في مدينة دهوك وأربيل والمدن والقرى والأرياف التابعة لهما ضد الجيش التركي ونوايا تركيا الإحتلالية ومحاولة تدخلها في العراق، فوقف الشعب والبيشمركة في صف واحد وطابور واحد منددين بالدخول التركي واحتلاله، والبكك وكسابق عهدها إستطاعت إخفاء نواياها وأهدافها تحت شعارات براقة وكتابات ومقالات!
هل كانت أقاليم الدفاع المشروع -أقاليم باراستنا ميديا- حرب السلطة؟
إنهار النظام البعثي الصدامي في الـ 9 من نيسان عام 2004 بشكل رسمي، ودخلت العراق في مرحلة جديدة، وقد وضع الإتحاد الوطني الكوردستاني والديمقارطي الكوردستاني خلافاتهما جانباً وبدءآ بكفاح ونضال مشترك لإنشاء واقع سياسي قوي لكوردستان في بغداد، والبكك لم تشارك بأي شكل من الأشكال في هذه العملية، ومما لا شك فيه أنها لم تشارك في إتفاقيات كوردستان ضد بغداد، بل أظهرت نفسها كقوة محايدة وبديلة للأصدقاء والأعداء على حد سواء، وكانت خطوتها الأولى إعلان مناطق ميديا -تسميها البكك بمناطق الدفاع المشروع- ضمن حدود حكومة إقليم جنوب كوردستان، وأسست إقليماً خاصاً بها تجاه حكومة الإقليم، قال أوجلان بشأن مناطق الدفاع المشروع: (ينبغي إعداد دستور خاص وتأسيس المجالس والمؤسسات وإجازتها من قبل الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية) غير أن هذه الرؤى لم تكن لها أي صدى في الواقع، وتم توظيف مناطق الدفاع المشروع -باراستنا ميديا- كقوة بديلة ضد حكومة جنوب كوردستان على الدوام بحيث أصبحت هذه المناطق كقواعد مضادة ونقطة خلافات ونزاعات ومنبع ضرر لحكومة إقليم كوردستان!
كيف قرر أوجلان إعلان الحرب؟
جاء في صحافة البكك وإعلامها في ذكرى قرار الأول من حزيران: بعد تراجع واستسلام عام 1999 ظن العدو أنه لم يبق باستطاعة البكك والمقاتلين إدامة الحرب، غير أن الحق أنه وفي اللقاءات مع ئابو وبحضور الدولة التركية أمر أوجلان ببدء الحرب، وما زالت البكك تحتفظ بتلك الرسائل التي كانت تصل إليهم من ئابو عن طريق الدولة، فلو يراجع الإنسان قرارات وتقييمات اللقاءات مع ئابو فسيرى أنه تحدث عن إعلان الحرب في نيسان عام 2003 محدّداً يوم 15 آب نفس العام كساعة الصفر، غير أن قيادة البكك وإدارتها آنذاك لم تر القرار صائباً، وكانت الفرصة متاحة للكورد بنظر قادة البكك بممارسة السياسة والجلوس على طاولات المفاضات والحوار والبدء بالنضال والعمل الدبلوماسي، ففي تموز عام 2003 قامت إدارة (KADEK) في جلستها الموسعة بغض الطرف عن محاولات أوجلان الرامية لإعلان الحرب وقال المجلس (لا) للحرب وسنقوم بدراسة هذا الموضوع في وقت لاحق ووضعو قرار أوجلان جانباً، فعدّ أوجلان إهمال المجلس لقراره وعدم إصدار المجلس لقرار الحرب وفق قراره عدّ ذلك إهانة له واحتقاراً لقراراته، فقام أوجلان بحجب نفسه عن لقاء محامييه لمدة شهر، وقال لمحامييه بأن موقفه هذا بمثابة إدانة تجاه قيادة (KADEK) “من كتاب لقاءات إيمرالي”، غير أن أوجلان لم يدع أن يتخلل هذا الحدث أي فاصل فحاول التدخل في إدارة الـ(KADEK) فبدأ بمحاولات جادة، فأوصل محاميو أوجلان (محمود شاكار وإبراهيم بلنكين) تهديداته المكتوبة لقنديل، ورغم هذا فإدارة (KADEK) لم تبدي أي اهتمام بهذه التهديدات ولم تؤثر عليها ولم تصدر إعلان الحرب حتى في مؤتمر الشعب عام 2003 ولغاية شهري تشرين الثاني وكانون الأول بل وقفوا ضد مواقف
أوجلان أخذ بنظر الإعتبار تقسيم البكك وتجزأتها
رأى أوجلان والدولة التركية أن البكك الخارجة من هيمنة وتحكم أوجلان باتت كامنة الخطورة، وأن الحاجة ماسّة لتقسيم البكك وتجزأتها وأن الوقت قد حان، نعم ستراق الكثير من الدماء غير أن الضرورة تتطلب إعادة البكك لحضن أوجلان وسيطرته! فتواصل أوجلان مع قنديل عن طريق محامييه لمدة 7 أشهر ذهاباً وإياباً بين قنديل وإيمرالي من أجل إثنائهم عن مواقفهم وإقناعهم بإعلان قرار الحرب، فالتقى هؤلاء المحامين كافة الأعضاء الإداريين للبكك منفردين من أجل إقناعهم بالحاجة الماسة والضرورية لإعلان قرار الحرب، والغريب في الأمر أن هؤلاء المحامين لم يسمعوا صوت الإطلاقات النارية في حياتهم أبداً! وبعد صدور قرار الحرب استقر محامي أوجلان (محمود شاكار) في ألمانيا، أما (عرفان مراد) المحامي الذي قال خلال المؤتمر أن هذا قرار الزعيم وينبغي على المؤتمر الانصياع له وإعلان الحرب فقد انكشفت قضية تجسسه وعمالته لصالح تركيا بعد فترة وجيزة وبشكل رسمي!
فقسّم أوجلان بيديه تنظيمات البكك، وسمّى بعض الرفاق الذين أمضوا سنوات من عمرهم وأفنوها في النضال والجبال سمّاهم يساريين ويمينيين، والهدف من هذا التقسيم والانشقاق بناء البكك الخاضعة والموالية لآبو حتى النخاع! ومن لم يلتزم بقرارات ئابو ولم يعتقد بصوابها إتّهم بالخيانة، وعلى هذا فقد صدر قرار إغتيال (كاني يلماز، سيبان روزهلات، كمالي سور وحكمت فيدان) وتمت تصفيتهم جسدياً، وأخيراً فقد إنشق نصف قادة البكك منها، وأريقت الكثير من الدماء، فغادر صفوف هذا التنظيم كل من عادى معاهدات أوجلان المشتركة والمنسقة مع الدولة في إخراج قرار الحرب بين البكك والدولة إلى الساحة إذ كان هدف أوجلان متمثلاً في القيادة الوحدوية للبكك وإن كانت هزيلة وضعيفة!
في الجزء الثاني: على ماذا إتفقت البكك والدولة التركية؟ وما الأضرار التي لحقت بإقليم كوردستان جرّاء هذا الإتفاق؟
إنتظرونا …