تتوالت ردود الأفعال المتباينة حول زيارة البابا شهر آذار الحالي للعراق وإقليم جنوب كوردستان، بحيث نستطيع تسمية جملة الأحداث بالجبهة المعادية للطابع، تلك الجبهة التي لم تطفأ شرارتها لغاية اليوم، غير أن الحقيقة هي أن هناك أسباباً سياسية وتأريخية ودبلوماسية هامة وراء كلّ هذا.
فقبل كلّ شيء، البابا والفاتيكان ليسا مؤسّسات سياسية، غير أنهما مؤسّسة ذات تأثير كبير على السياسة، فكانت نظرة العالم الغربي على زيارة البابا وكيفية استقباله في إقليم كوردستان نظرة بالغة الأهمية والحساسية وتحمل في طياتها العديد من الرسائل ذات دلالات ومعان، فالكلّ يعلم أن البابا لن يُستقبل بمثل هذه المراسيم في أية دولة في الشرق الأوسط، كما لم يكن بالإمكان للطائفة الكاثوليكية أن تستقبل البابا بهذا الجو من الفرح والسرور والحرية، وهذا ما أثبت حقيقة وجود ركائز وأسس التعايش الفكري والديني الدائم في ظلّ حكومة إقليم جنوب كوردستان التي تضمّ في بنيتها كافة أطياف الشعب الكوردستاني من قوميات وأديان وثقافات متنوعة.
كوردستان في أطر شرق أوسط تسوده عقلية دينية طائفية متشدّدة يحبّ أتباعه خطاباً ملكياً موحّداً، تتجسّد برّ الأمان والاستقرار والحرية
في البداية، ينبغي ملاحظة أن إقليم كوردستان يعدّ موضة جديدة ووجهاً جمالياً من كافة الجوانب الدينية والعرفية والثقافية في إطار سلسلة التعايش السلمي في الشرق الأوسط، غير أن انحصار الإقليم إقليمياً من قبل الدول الغاصبة لكوردستان والمحتلّة لأراضيها وممارساتها المعادية للكورد جعلت كوردستان تواجه مشاكل ومعاضل اقتصادية وسياسية وجهاً لوجه، ومحاصرة هذه الجبهة المعادية للكورد لكوردستان عرقلت التطورات التي تشهدها كوردستان، غير أنها لم تستطع طمس حقيقة التعايش السلمي والأخوي في كوردستان أو تغيير مجرياتها، فكوردستان في إطار شرق أوسطٍ تسوده عقلية دينية طائفية متشدّدة مونارشيستية -نظام يحبّ أتباعه خطاباً ملكياً موحّداً، تتجسّد برّ الأمان والاستقرار والحرية.
حكومة إقليم كوردستان هي نموذج الحكومة المثالية للشرق الأوسط
من المعلوم أن غياب الكورد كان واضحاً في الألفية الثانية بحيث تمّ تجاهلم كلياً، فاتفاقية سايكس-بيكو في الـ 16 من آذار 1916 ولغاية التوقيع على اتفاقية لوزان، جعلت من دول الغرب لا ترى الكورد، بل وشرعنت احتلال كوردستان واغتصاب أراضيها، وبعدها وفي كونفرانس باريس وسيفر عام 1919 تمّ التوقيع على تقسيم وحدة أراضي كوردستان من جانب، ومن جانب آخر كانت اتفاقية لوزان من إفرازات سلسلة الأحداث آنذاك، فاتفاقية لوزان في 24 تموز 1923أصبحت منعطفاً تأريخياً ومنطلقاً لـ 100 سنة من ممارسة المجازر والإبادات والتطهير والإذابة والانصهار والحروب والمعارك والمآسي والدمار والآلام للكورد وكوردستان، فهذه الاتفاقية كانت نتاج أيد الغرب والغربيين، فسنحت كافة الفرص للجبهة المعادية للكورد من الدول الإقليمية لممارسة كافة أشكال المجازر والقتل والتعذيب بحق الكورد، غير أن المعادلة بدأت تتغيّر نسبياً بداية تسعينيات القرن المنصرم، بحيث نستطيع القول بأن جنوب كوردستان تسبّب بإحداث صدع في الجبهات والأنظمة المناوئة المعادية للكورد دولياً وإقليمياً والمستمرة منذ اتفاقية سايكس-بيكو، فكينونة حكومة إقليم كوردستان كانت اندثاراً وهدماً للنظام المناوئ والمعادي للكورد، فكلّ عداوة لحكومة جنوب كوردستان هي اعتراض لهدم وانهيار نظام لوزان ودعوة لإدامة الاستبداد والقمع والظلم ضد الكورد وإدامة لاحتلال كوردستان، كما انضمّ غرب كوردستان لثقل المطرقة التي تدكّ أسس هذه العملية.
مشكلة الطابع البريدي هي في الحقيقة مشكلة لوزان
أحدث الربيع العربي هزّة عنيفة في قواعد وأسس اتفاقية سايكس-بيكو في الشرق الأوسط، كما ألمحت زيارة البابا للكورد الذين تمّ التخلي عنهم وتجاهلهم كلياً ورغم هذا استطاعوا المقاومة ومواجهة التحديات، ألمحت الزيارة أن بمقدور الكور أن يكونوا أقوى أصدقاء وحلفاء أوروبا في الشرق الأوسط، يضاف إليه كون حكومة إقليم كوردستان نموذج الحكومة المثالية للشرق الأوسط، وهذا ما تسبّب بانهيار اتفاقية لوزان من القواعد.
فمشكلة الطابع البريدي هي في الحقيقة مشكلة لوزان، مشكلة الطابع هي أن الجبهة المعادية للكورد تشعر بشكل أكثر وأعمق بانهيار نظام لوزان، كون العالم الفكري الغربي الذي كان معادياً للكورد بكافة أشكاله وأساليبه يجد الآن نفسه متكاتفاً مع الكورد وبجانبه وفي جبهته.
تركيا أشد شغفاً بعداوة الكورد!
جنّ جنون الدولة التركية المحتلة بقيادة (CHP) المعادية للكورد في قضية الطابع البريدي، لما أفرزته نجاحات إقليم كوردستان الدبلوماسية من نكوص على انتهاكات تركيا المتواصلة تجاه كوردستان، كما كانت تصريحات البرلمان الأوروبي بصدد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وتسميته لها بالحليفة جزءاً من هذه العملية، كما أغضبت هذه الأحداث المستجدة إيران كثيراً لعلمها المؤكد أن العراق الذي يعتبر فناءها الخلفي ستتأثر مباشرة بالوضع المستحدث، كما لاحظنا بأعيننا ما قامت به ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران من استهداف العاصمة أربيل بالصواريخ قبل زيارة البابا لاعتراض هذه الزيارة وإلغائها، إذ كان الهدف منها انثناء البابا عن زيارته لإقليم جنوب كوردستان لإعطاء المزيد من الوقت لحالة الموت التي تمرّ بها اتفاقية لوزان، غير أن هذا لم يحصل إطلاقاً، وستستمرّ محاولات تركيا وإيران المعادية لحكومة إقليم جنوب كوردستان وتتواصل، ما يفرض علينا أن نكون يقظين أكثر من أي وقت مضى وندرك جيداً أننا سنواجه أحداثاً عدائية أشد وأشد في الفترة المقبلة.
وبالأخص تركيا، فتركيا أشدّ شغفاً بعداوة الكورد، فقد أقامت القيامة بصدد قضية الطابع البريدي، ومع أن البعض يعتقدون أن تركيا تستغلّ مشكلة الطابع للهروب من مشاكلها الداخلية المتراكمة، غير أن الحقيقة ليست كذلك، فقد بُنيت تركيا على سياسة إقصاء الكورد وإنكارهم، فلا وجود لاختلافات الألوان في الجمهورية التركية الموحدة، فتركيا ذات طابع ونظام دولي مبني على التطرف والتشدّد للقومية التركية، فكلّ من يعيش في تركيا يعتبر من الأتراك شاء أم أبى، فعدم تقبّل الأتراك للكورد وعداوتهم للكورد لا تبدأ بأردوغان وحده، بل ذهنية وعقلية الدولة التركية فاشية من الأساس، فهي معادية للكورد منذ اليوم الأول لتأسيسها، ففقط لدى حاجة الأتراك لتعاون لكورد يذكّرونهم بأنهما هزموا البيزنطيين معاً في الأناضول، وأنّهم حاربوا معاً في جناق قلعة! فالكوردي الجيد في نظر الأتراك وعقليتهم هو الكوردي الميت لا غير!
استشاطة الأتراك غضباً ناتج عن خوفهم
لم تتقبّل تركيا كينونة حكومة إقليم جنوب كوردستان مطلقاً، والآن، كافة الأحزاب التركية أصبحت تتنافس على عداوة حكومة إقليم كوردستان، وترى وجوب قطع كافة العلاقات الحالية والسابقة مع حكومة جنوب كوردستان، وفسرت زيارة البابا على أنها لعبة إمبريالية عظيمة، بل وأظهرتها كحملة صليبية، ويتحركون مضطربين وكأنهم ليسوا هم من أبرموا معاهدة لوزان مع هذا العالم الغربي “ضد الكورد”! وكأنهم ليسوا من يمدحون أنفسهم بأنهم يمتلكون ثالث قوة في حلف الناتو، فقد تأسّست الدولة التركية للتحالف مع الجبهة الغربية، فهي تحارب الجبهة الشرقية في طابور الجبهة الغربية، إذ الهدف الوحيد والسبب الرئيسي من تأسيس تركيا هو حماية النظام الغربي والدفاع عنه بوجه الشرق.
بعدها أُرغمت على تقبّل حقيقة وجود كيان إقليم جنوب كوردستان، ولن تنتهي قصة تركيا هنا، فهي ستسمع اسم كوردستان أكثر وأكثر، وسترى خارطة كوردستان أكثر، فكما يقول المثل الكوردي بأن الحياة أدوار وليست قوة فقط -أو ما في معناه- فلكلّ شيء وقت، فلو كانت الحياة أدواراً فقد حان دور الكورد وعصرهم، بل وحتى لو كانت الحياة بالقوة فالكورد أصحاب قوة وأولي بأس أيضاً في الوقت الراهن، فينبغي على تركيا التعوّد على سماع اسم كوردستان وخارطتها وألوان كوردستان، فنحن الكورد سنصمت أحياناً ونتراجع أحياناً وندين تركيا، فهذا الوضع مرهون بالسياسة والدبلوماسية الدولية، وليس ضعفاً ووهناً، فلو دعت الحاجة لأحرقنا كافة نسخ وثائق لوزان، وسيتقبّل الكلّ كوردستان، فالبابا إنما كشف هذه الحقيقة فقط لا غير، واستشاطة الأتراك غضباً هو بسبب خوفهم لا غير!