مع اقتراب الانتخابات التركية والتي يرى كثير من المحللين الدوليين أنها بمثابة نقطة تحول على الساحة الداخلية في تركيا وكذلك على الساحة الإقليمية والدولية، نشرت صحيفة الفاينانشيال تايمز مقالًا تحليليًّا هامًّا كتبه الكاتب والصحفي توني باربر محرّر التعليقات الأوروبي في الفاينانشيال تايمز، والذي عمل كمراسل أجنبي سابق في النمسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا وبولندا والاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة ويوغوسلافيا السابقة، واستعرض الكاتب تحليلات عدد من السياسيين والدبلوماسيين.
وقد جاء في المقال: لا تزال الأسئلة مطروحة حول ما إذا كان الرئيس سيقبل بالهزيمة وكيف يمكن للمعارضة أن تتصرف في السلطة، وعلى كل فبعد أيام، ستجري تركيا انتخابات رئاسية وبرلمانية، ستحدّد نتيجتها شكل الديمقراطية والاقتصاد والسياسة الخارجية في تركيا.
وبالطبع فأهمية تركيا كقوة إقليمية وثقلها في النظام الدولي الأوسع، يجعل صنّاع السياسة في العواصم الغربية، وموسكو، والشرق الأوسط يراقبون باهتمام بالغ الانتخابات التركية القادمة.
وتجري الانتخابات التركية هذا العام في يوم حافل بصدى التاريخ التركي الحديث فقبل 100 عام وبالتحديد في أكتوبر 1923 تم إنشاء الجمهورية التركية، ممّا وضع البلاد على مسار سياسي علماني إلى حدّ كبير خلافا لماضيها العثماني، واستمر هذا المسار العلماني حتى تحوّل في عهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يتولى السلطة منذ عام 2003 حيث أصبح أسلوب الحكم إسلامي جديد متسلّط يستدعي بالنسبة لبعض المحللين عهد السلاطين.
كما يصادف يوم 14 مايو الذكرى السنوية الثالثة والسبعين لحدث هام آخر في تركيا، وهو الانتخابات البرلمانية التي تمّ اجراؤها عام 1950 وهو ما كان يمثّل أكثر الانتخابات حرية حتى ذلك الحين في تاريخ البلاد، وجاء عدنان مندريس، زعيم الحزب الديمقراطي المعارض رئيساً للوزراء، وبدا ذلك اختراقًا للديمقراطية العلمانية التركية، لكن ذلك لم يكن تغيراً حاسماً ولم يدم سوى 10 سنوات حيث أطاح انقلاب عسكري بمندريس وتم شنقه في عام 1961.
ولكن بالعودة إلى الانتخابات التركية اليوم، فلا شكّ في أن المعارضة المناهضة لأردوغان تحلم بانتصار على طراز 1950 في نهاية الأسبوع المقبل، ولكن ما مدى احتمالية ذلك، وبالنظر إلى ميل تركيا إلى حكم الرجل القوي في ظلّ حكم أردوغان؟ فحتى لو انتصرت المعارضة، فما الذي سيتغير عملياً في سياسات تركيا الداخلية والدولية؟
تشير استطلاعات الرأي إلى أن كمال كليجدار أوغلو، زعيم كتلة معارضة من ستة أحزاب، لديه فرصة للفوز بفارق ضئيل في المنافسة الرئاسية على أردوغان ربّما في جولة الإعادة الثانية التي ستجرى في 28 مايو/ أيار.
بينما في الانتخابات البرلمانية، يبدو أن حزب أردوغان العدالة والتنمية (AKP) وشركاؤه في منافسة شديدة بالمثل، ومن غير المؤكّد ما إذا كان بإمكانهم أو للمعارضة الفوز بأغلبية مطلقة من المقاعد. ولسوء الحظ، تخبر استطلاعات الرأي نصف القصة فقط.
وكما كتبت ناتالي توتشي، مديرة المعهد الإيطالي للشؤون الدولية، لموقع Politico الإلكتروني قائلة “ستجرى انتخابات تركيا في بيئة غير ديمقراطية بشكل متزايد”.
بينما في مقال لمجلة فورين بوليسي أوضح ستيفن كوك أنه:
“منذ عام 2003 قام أردوغان وحزب العدالة والتنمية بإفراغ المؤسسات السياسية لضمان قبضته على السلطة… كما أصبحت وسائل الإعلام التي كانت يوماً ما لديها مساحة تعبير حرة تحولت اليوم إلى مؤسسات تنقل ما تمليه عليها الدولة، أما عن مؤسسّة القضاء والتي كانت ذات يوم معقلًا للمؤسسة القومية العلمانية أصبحت اليوم حكراً على أنصار حزب العدالة والتنمية، كما أصبحت عمليات التطهير واحدة من أهم سمات السياسة التركية”.
وبعبارة أخرى، فإن الاحتمالات منذ البداية ضدّ كيليتشدار أوغلو وتحالف المعارضة، صحيح أن مرشحاً معارضاً تغلب على ضغوط الحكومة للفوز بانتصار رائع في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول لعام 2019، لكن النقطة البارزة والتي يجب الانتباه إليها هي أن هذه النتيجة، على الرغم من كونها تذكيراً بأن الغرائز الديمقراطية للمجتمع التركي لا تزال نابضة بالحياة، لم تتحدى بشكل أساسي سلطة أردوغان على المستوى الوطني، علاوة على ذلك فقد حُكم على المرشح المنتصر أكرم إمام أوغلو بالسجن في كانون الأول/ ديسمبر ومُنع فعلياً من المشاركة في السباق الرئاسي لهذا العام.
لذا فإن السؤال هو: إذا كان أردوغان سيخسر السباق الرئاسي، فهل سيقبل بالهزيمة بالفعل؟ أم أنه سيجد طريقة ما لقلب النتيجة، من خلال التدخل القضائي أو إعادة فرز الأصوات أو أي وسيلة أخرى؟ والحقيقة أنني لست مقتنعًا على الإطلاق بأن أردوغان مستعد للابتعاد عن نظام السلطة الرئاسية الهائلة الذي بناه لنفسه.
عواقب انتصار أردوغان
من الصعب تخيّل أي ظروف تؤدي فيها إعادة انتخاب أردوغان إلى تحرير سياسي في الداخل، إن إحكام الخناق من شأنه أن يزيد الاحتكاكات بين تركيا وحلفائها الغربيين التي نمت باطراد خلال السنوات الماضية.
وقد حدّد الموجز السياسي لمركز الإصلاح الأوروبي، العواقب المحتملة لانتصار أردوغان في الآتي:
1- تصاعد الدعوات في أوروبا لإنهاء عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي رسميًّا، والتي هي في حالة تجميد عميق ولكن كان لدى كلا الجانبين حتى الآن مصلحة معينة في التظاهر بأنها لا تزال مستمرة.
2- تصاعد التوترات بين أنقرة وأثينا ونيقوسيا، ممّا قد يؤدي إلى الضغط من أجل المزيد من العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على تركيا، بعد مجموعة من التدابير المحدودة نوعًا ما التي فُرضت في عام 2020.
3- توتر مع الولايات المتحدة وأوروبا بشأن علاقات تركيا مع روسيا، لا سيما في سياق الحرب في أوكرانيا، وعند قراءة مجموعة من التعليقات حول الانتخابات التركية، أشعر أن هذا التكهن القاتم يمثل وجهة نظر الإجماع.
لكن يوانيس أليكسيوس زيبوس، السفير اليوناني السابق المرموق، ذكر في مقاله المنشور بصحيفة صوت أثينا، أن الزلزال الرهيب الذي ضرب تركيا في فبراير أدى إلى تخفيف التوترات بين أنقرة وأثينا من خلال تذكير كل جانب بمخاوفهم الإنسانية المشتركة، أضاف أيضاً: “أجرؤ على القول إن إعادة انتخاب الرئيس أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية التركية الصديقة له ستخلق مناخًا أكثر ملاءمة ومرونة نسبية من الجانب التركي، على عكس التغيير الكامل في الجار الذي سيؤدي إلى جلب رئيس جديد وطموح إلى السلطة وقيادة متعددة الأحزاب قد ترغب في أن تثبت في كل خطوة مدى أهميتها في إدارة مختلف القضايا…”.
عواقب انتصار المعارضة
زيبوس ليس وحده الذي يتسائل عما إذا كان انتصار المعارضة سيغير السياسات التركية حقًّا، فعلى الجانب الإيجابي، ستكون هناك بالتأكيد روح أكثر ديمقراطية في السياسة الداخلية -لكنني أتساءل عما إذا كان كيليجدار أوغلو، بمجرد توليه منصبه، سيفي بالفعل بوعده بتفكيك الرئاسة التنفيذية التي أنشأها أردوغان وإعادة تركيا إلى نظام برلماني أكثر.. بعد كل شيء، سيحتاج إلى كل القوة التي يمكنه حشدها للتغلب على مقاومة بقايا حزب العدالة والتنمية في الجهاز الحكومي.
وبالطبع قد يتبنى رئيس جديد أيضاً سياسات اقتصادية أكثر عقلانية، ويتخلى عن مبادرات أردوغان الخاصة التي أدت إلى ارتفاع التضخم وضغط على الشركات والمستهلكين.
كما كتب مارك بيريني وفرانشيسكو سيكاردي لمجلة كارنيجي أوروبا، أنه قد يكون هناك أيضًا تهدئة للتوترات بين تركيا والغرب – ولكن ليس في جميع المناطق.
وقال إن في قبرص ليس من الواضح على الإطلاق أن أي رئيس أو حكومة جديدة في أنقرة ستتخلى عن دعم دولة القبارصة الأتراك الانفصالية في شمال قبرص، أو أنها ستقوم بتقديم تنازلات بشأن استغلال موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط.
وقد يسعى كيليجدار أوغلو إلى المصالحة مع الرئيس السوري بشار الأسد، وهو الخط الذي ألمح إليه أردوغان نفسه، ومن شأن ذلك أن يعقد علاقات تركيا مع الولايات المتحدة. أما بالنسبة لعلاقات تركيا مع روسيا، فإن السياسة الحالية المتمثلة في “تأييد كييف دون أن تكون معارضة علنية لموسكو” قد تظلّ دون تغيير إلى حدّ كبير. العلاقات الاقتصادية المتنامية تفيد تركيا: فهي لم تمتنع فقط عن الانضمام إلى العقوبات الغربية ضد موسكو، ولكنها تمتعت بازدهار في الصادرات إلى روسيا منذ غزو أوكرانيا.
كلّ هذا يعكس وجهة نظر مشتركة على نطاق واسع بين الطبقات السياسية في تركيا بأن السياسة الخارجية المستقلة -بما في ذلك عضوية الناتو ولكن بطريقة أخرى متوازنة بين الغرب وروسيا والصين والقوى الأخرى- تخدم المصلحة الوطنية بشكل أفضل.
هذا الرأي مستمد من التغييرات طويلة الأجل في موقف المجتمع التركي تجاه الولايات المتحدة، والذي يُنظر إليه بشكل أقل إيجابية بكثير ممّا كان عليه قبل جيل مضى، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي يعتقد الأتراك الآن أن بلادهم لديها فرصة ضئيلة للانضمام إليه في أي وقت قريب.
ويقول توني باربر: مع ذلك، لا أريد أن أنهي حديثي بملاحظة لاذعة، كما لاحظ بيريني وسيكاردي، فإن إحدى النتائج الإيجابية التي لا لبس فيها لحكومة تركية جديدة ستكون بالتأكيد “إعادة حوار مهني وكريم بين أنقرة والعواصم الغربية، وسيكون هذا مصدر ارتياح كبير لبرلين وبروكسل ولندن وباريس وواشنطن“.
وبشكل عام سيكون فوز المعارضة في الانتخابات، متبوعاً بخروج أردوغان من السلطة حدثًا غير عادي على الإطلاق.