إن نتائج العملية الانتحارية التي جرت في أنقرة في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، مهمة جدّاً بالنسبة للكورد ويجب مناقشتها بكافة تفاصيلها، لكنّ حزب العمال الكوردستاني بكك، سواء على وسائل الإعلام عامة أو على شبكات التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، يستهدف كلّ من يحللّ وينتقد العملية واحدًا تلو الآخر ويهاجمهم بكلمات مبتذلة متعجرفة مثل “ماذا فعلت أنت؟! أنت جالس في المنزل، هؤلاء فدائيون من أجل الموت…” وغيرها من العبارات.
بمعنى، أنه يُنظر إلى هذه الانتقادات والتحليلات للعملية الانتحارية على أنها إهانة من قبل الناشطين أو دعم ومساندة للدولة التركية، لكنّ على العكس من ذلك، فإن انتقاد العملية بغية إنقاذ حياة هؤلاء الأشخاص المنفّذين لها والذين فقدوا حياتهم في فيها أمر أخلاقي للغاية، فاستخدام السلاح من قبل حزب العمال الكوردستاني بكك بات عديم المعنى والدلالة على الإطلاق، ولا داعي لأن ينزف إصبع شاب كوردي واحد، ويتعيّن على الكورد في الوقت الراهن أن يأخذوا زمام المبادرة في الوقوف في وجه هذه الحرب العديمة الجدوى والمعنى التي تديرها البكك، كما ينبغي أن تكون عملية أنقرة نقطة تحول ومنطلقاً لهذه المبادرة.
يجب مصادرة وانتزاع سلاح “الموت المقدّس-الشهادة” من أيدي حزب العمال الكوردستاني
بادئ ذي بدء، يجب على الكورد أن يصادروا سلاح “الشهادة-الموت المقدّس” وينزعوه من أيدي حزب العمال الكوردستاني، فالعمال الكوردستاني بكك ومنذ سنوات بات محتكراً السيادة ومحرّماً نقد الشعب على حساب دماء الشباب الكورد، بل على العكس تماماً، فهو يحفز جمهوره ويشعل حماسه بهذا، وما تريده البكك منّا، اليوم، هو الوقوف والتظاهر رافعين صور الشابين اللذين نفّذا العملية الانتحارية في أنقرة وترديد الشعارات، وكذلك، تريدنا أن نصرخ بأعلى صوتنا وملأي حناجرنا في الشوارع والأزقة رافعين إصبعين كعلامة للانتصار مردّدين شعار (الشهداء لا يموتون) لكنّ الحقيقة هي أن شابين كورديين فقدا حياتهما في هذه العملية، والواقع، أنه تمّ توجيههم نحو طريق الموت بأسلوب مريب لدرجة باتت عمليتهم تحوم حولها الشكوك وتكتنفها الغموض والارتياب، فلا يُعلم هل هما فعلاً من قاما بتفجير نفسيهما أم تمّ تفجيرهم عن بُعد! وهل هما من نفّذا العملية أم أن العملية نفّذت بحقّهما؟!!
وبغض النظر عمّا تدّعيه البكك وتزعمه، فلم يُقتل أي شرطي أو عسكري تركي خلال العملية، بل أصيب فقط شرطيان، بمعنى أنّ شابين كورديين فقدا حياتهما من أجل إصابة شرطيين تركيين!! أي أن هذين الشابين قتلا طبيباً بيطرياً من أجل إصابة شرطيين تركيين!! جاءا من قيصرية إلى أنقرة، ألم يلاحظهما أحد؟ رجاؤنا منكم لا تتوقّعوا منا تصديق كذبتكم هذه…
فهؤلاء الشباب أصبحوا ضحايا لعبة قذرة، تمّ خداعهم بأسلوب بشع، تمّ إعدادهم للموت ضمن نظام لا أخلاقي يُدعى (طابور الخالدين-كتيبة الخالدين) فباتوا كروبوتات مستعدّين للموت لا للحياة، ومنذ بداية ظهور البكك ولغاية اليوم، كانت هذه الأجيال الخمسة من شباب الكورد ضحايا لعبة البكك القذرة هذه، ووقع هذان الشابان أيضاً في هذه المصيدة اللعينة…
البكك ومحاولة فرض قدر اليسار التركي على الكورد
آخر عملية نفّذتها البكك ضدّ الدولة التركية، كانت في 28 أكتوبر من العام الماضي، وذلك عن طريق عنصرين من (كتيبة الخالدين) في ميرسين، كذلك لم تسفر العملية تلك عن أي قتلى من الأتراك، كما أن العملية كذلك حامت حولها غيم الشكوك والارتياب، ولم تؤثّر سلباً على الإطلاق على سياسات الدولة التركية، لذلك، يبدو أن 25 مليون كوردي من باكور كوردستان سيجلسون لمدة عام وينتظرون الهجوم الفدائي القادم للبكك، ثمّ سيردّدون بعدها الشعارات ويؤلفون القصائد والأغاني ويسجّلون مقاطع الفيديو ويطلبون من الجميع أن يصمتوا ولا يتفوّهوا بكلمة فهؤلاء يموتون من أجلنا! فهل هذه هي الحرب الكبيرة التي تسمّيها البكك بـ “استراتيجية الدفاع المشروع”؟! أيا تُرى هل ستحلّ هذه العملية المشكلة الكوردية في تركيا؟! والحال أنّنا تخلّينا عن الاستقلال وكوردستان الكبرى… فأية مشكلة ستُحلّ؟! هل هي مشكلة الثقافة الكوردية أو السياسة أو حقّ الإدارة الذاتية؟!! على الإطلاق، لن يتمّ حلّ أية مشكلة، فبموت الشباب لا تُحلّ المشاكل بل تتعمّق أكثر فأكثر…
هذا الأسلوب هو أسلوب اليسار التركي، فاليسار التركي وعلى الرغم من تهميشه، ظلّ يجنّد الشباب للموت طيلة 50 عاماً، فيُقتل ويموت الكورد من ديرسم أو ملاطيا أو الشباب من الطبقة العاملة الكادحة بأيدي الدولة التركية هنا وهناك أثناء حملات الإضراب عن الطعام… فهل هذا سينقذ المجتمع التركي؟ بالطبع لا، بل على العكس من ذلك، أصبح اليسار التركي عصى في يد الدولة، تقاوم به وتضرب به الكورد متى شاء.
من المستفيد من سلاح البكك؟
هناك مبدأ في الحرب، يقول: “إذا كنت لا تستخدم السلاح الذي في يدك جيدًا ولا تستطيع قتل العدو به، فهذا السلاح بمثابة كارثة، فالسلاح الذي في يدك يدار من قبل عدوك” وعليه، فالسلاح الذي في أيدي البكك وإصداراتها المتعدّدة لم يعد يخدم الكورد، بل على العكس تماماً، بات يُستخدم ضدّ الكورد، فقد تحوّلت البكك في الوقت الراهن إلى حركة تنفّذ عملية أو اثنتين عندما ترى الدولة التركية ذلك ضروريًا وتوافق عليه أو تكون في أمسّ الحاجة إليها، فالبكك أصبحت الآن قوة شبه عسكرية (Paramilitary).
ساند شعب باكور كوردستان-كوردستان تركيا بكافة أطيافه وألوانه وطبقاته وتوجّهاته، سواء كانوا متدينين أو يمينيين أو يساريين… وقدّم الدعم اللازم لحرب البكك في التسعينيات، نزف حتّى الموت، فقد الأرواح وحمل السلاح… امتلأت بهم السجون والمعتقلات التركية، تمّ نفيهم وترحيلهم، أحرقت قراهم وهجّروا من ديارهم… فعل شعب باكور كوردستان كلّ ما في وسعه من أجل البكك آنذاك، لم تكن حرب البكك في التسعينيات من ذكاء أوجلان وحكمة قادة البكك، بل كانت نتاج إيمان الكورد في باكور وعشقهم اللامحدود وعطشهم للاستقلال والحرية. لكن بعد عام 2000، باعت البكك هذه الإنجازات الشعبية بشكل أكبر جزافاً وبثمن بخس!
أوعزت الدولة إلى أوجلان أوامر بانسحاب المقاتلين من باكور كوردستان، فانسحب الگريلا، وفي عام 2004، أوعزت الدولة إلى البكك بـ “بدأ الحرب” وفعلاً بدأت الحرب، والشكوك تحوم حول معظم العمليات والأنشطة التي قامت بها البكك منذ عام 2000، فجميعها بدت في خدمة الدولة التركية، فأحداث فارقين في 14 يوليو 2011 وأحداث جيلان بيناري في 22 يوليو 2015 ليست إلّا جزءاً من هذه الأعمال المشبوهة والمريبة لحزب العمال الكوردستاني بكك.
والآن أصبح سلاح البكك شريان الحياة بالنسبة للدولة التركية، كما تحوّل لأداة استسلام وقمع بالنسبة للكورد، ولا تهدّد البكك الدولة التركية بقدر ما تهدّد حكومة إقليم كوردستان، ولا تقف عائقاً أمام التطوّر الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي للدولة التركية ودول الاستعمار عموماً بقدر وقوفها ومنعها هذه التطوّرات لحكومة إقليم كوردستان، ففي فترات سابقة، هدّد مراد قره يلان بيشمركة كوردستان قائلاً: “لا أريد أن أصدر تعليمات للفدائيين بالذهاب وقتل البيشمركة!”.
البكك لا تستطيع التستر على هزيمتها وفشل حرب الگريلاتية وإخفائهما بستار عملية انتحارية
والآن هناك حقيقة يجب الاعتراف بها وتقبّلها، ألا وهي أنه عندما عاد أوجلان إلى حضن تركيا، فشلت نظرية حرب الگريلاتية التي كانت البكك مبنية عليها، كما فشلت ما تسمى بإستراتيجية الدفاع عن النفس بعد معركة الخنادق في باكور كوردستان، فما فعلته البكك في السنوات الأخيرة هو إخفائها لهزيمتها وفشلها، ومحاولة إلقاء اللوم على الحزب الديمقراطي الكوردستاني والرأي العام الكوردي بل والجميع وراء هذا الفشل، إن ما قامت به البكك في السنوات الأخيرة ليس سوى ممارسة ألاعيب الأطفال في خداع عموم الشعب الكوردي، فليست هناك أية مقاومة كما ليست هناك أية حرب أو معارك كما تدّعيه البكك، كما لم يمنع أحدٌ البكك من قتال الأتراك، بل هذه الادّعاءات البككية ما هي إلا محاولات يائسة للتغطية على فشلها الذريع وهزيمتها النكراء.
كما يعترف أعضاء البكك وقادتها أنفسهم في النقاشات الدائرة فيما بينهم بإفلاس حرب الگريلاتية، ولا يؤمن أحدٌ بالشائعات والمزاعم التي تطلقها البكك على ماكيناتها الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي سوى المغرّرين من المقاتلين الصغار والقاصرين في رفوف مقاتليها، ولا يريد أرباب البكك والمستفيدين منها أن يضيّع بازار البكك من أيديهم لهذا دأبوا على استغلال الشباب واستثمارهم وسوقهم وقيادتهم نحو الموت، وإلّا فالمكسب والإنجاز الوحيد من وراء عملية أنقرة المشبوهة هو أن البكك سترسل رسالة لأتباعها (انظروا، نحن موجودون، ولا يزال بإمكاننا القيام بالعمليات والأنشطة).
لذا، يجب على مثقفي الكورد أن يتحلوا بالشجاعة والجرأة، وأن يتوقفوا عن تمجيد الموت، وأن ينتقدوا علناً وبوضوح هذا النوع من العمليات التي تنفّذها البكك، ينبغي المصارحة بالقول إن حرب البكك لن تخلق مستقبلاً حراً وواعداً للكورد، بل على العكس تماماً، ستجعل يوم الكورد قاتماً وتحوّله لظلام دامس، يتعيّن على الكورد الآن أن يقفوا بحذر ضدّ عنف البكك الذي أصبح أداة في أيدي الأعداء الغاصبين، وأن يحرّروا أنفسهم من زوبعة الموت هذه.