منذ ما يقرب من 50 يوماً، لم يتقاضى موظّفو إقليم كوردستان رواتبهم، ولم تستلم حكومة إقليم كوردستان أي أموال لدفع الرواتب، ما خلق أزمة «رواتب»، وبسبب تفسير بعض الأطراف مسألة الرواتب بشكل فوضوي وطريقة معقدة للغاية، أصبحت أزمة الرواتب بمثابة جرس إنذار خطر يحاولون اتّهام حكومة إقليم كوردستان بالتسبّب بهذه الأزمة، لكن الحقيقة الوحيدة هي أنه لا وجود لأية أزمة رواتب، وما يُطلق عليه تسمية “أزمة الرواتب” إنّما هو جزء من استراتيجية العراق المتمثلة في “إلغاء كيان إقليم كوردستان وتحويل الإقليم إلى نظام المحافظات ضمن الدولة العراقية كباقي محافظات وسط وجنوب العراق” وهي في الواقع محاولة دعائية ضدّ الكابينة التاسعة لحكومة إقليم كوردستان قبل الانتخابات البرلمانية الكوردستانية-هذا إذا تمّ ربط هذه الاستراتيجية بالعراق فقط، وهذا خطأ، فهي في الواقع استراتيجية إيران، التي أصبحت ذات سيادة مطلقة على العراق، وتركيا والقوى المناهضة والمعادية للكورد تدعم بشكل أساسي ورئيسي هذه الاستراتيجية-.
ما هي استراتيجية الدولة العراقية ذات المرحلتين تجاه إقليم كوردستان؟
إن استراتيجية العراق المتمثلة في إلغاء وإزالة كيان إقليم كوردستان ليست جديدة، فمنذ عام 2003، اتّخذت القوى المناهضة لكوردستان خطوات لتدمير الكيان الذي حقّقه الكورد، وخاصة بعد عام 2012، تحوّلت هذه الاستراتيجية إلى هجمات علنية مفتوحة بالدم والسلاح والاحتلال والنفط والموازنة واستقطاع الرواتب… والآن بات أولئك الذين يريدون القضاء على كيان إقليم كوردستان لديهم خطة من مرحلتين؛ المرحلة الأولى من هذه الخطة: هي خلق واقع يخسر فيه الحزب الديمقراطي الكوردستاني (PDK) في الانتخابات ولا يفوز فيها، وبالتالي إزاحة الديمقراطية الكوردستاني من السلطة. لتبدأ المرحلة الثانية والتي تتمثّل في تشكيل حكومة ضعيفة من دون الحزب الديمقراطي الكوردستاني ومن ثم تفكيك إقليم كوردستان وتحويله إلى محافظات عراقية كباقي المحافظات.
في هذه الاستراتيجية، فإن انتخابات برلمان كوردستان المقرّرة إجراؤها في تشرين الأول/ أكتوبر تشكّل أهمية كبيرة بالنسبة للجبهة المناهضة المعادية لكوردستان، وبطبيعة الحال، فهي أهمّ بالنسبة لحكومة بغداد. فمنذ عامين، بذلت الحكومة العراقية جهوداً كبيرة وجبارة حتى تتمّ انتخابات كوردستان بالشكل الذي تريده. وكان تعديل قانون انتخابات برلمان كوردستان من قبل المحكمة الاتّحادية العراقية العليا من ضمن هذه الجهود والمحاولات بشكل واضح، كما كانت بداية هذه الخطّة والعملية المدمرة.
في انتخابات كوردستان: الحزب الديمقراطي الكوردستاني يتنافس مع القوى الدولية وليس مع الأحزاب
تشكيل حكومة في كوردستان بدون مشاركة الحزب الديمقراطي الكوردستاني هو إستراتيجية أساسية للجبهة المعادية المناهضة لكوردستان، وذلك لأن الحزب الديمقراطي الكوردستاني بموقفه هذا في وضع لا يمكن أن تقبله هذه الجبهة، وهذا ما لا يحتاج لنقاش مرير وجدل كبير، فبمجرّد النظر إلى خريطة الشرق الأوسط ومشاهدة المواقع والمناطق التي لم تتمكّن الدولة الإيرانية من الهيمنة عليها من العراق وسوريا ولبنان إلى اليمن، يمكنك أن ترى على الخريطة أن المناطق الخاضعة لسيطرة الحزب الديمقراطي الكوردستاني فقط هي التي لم تتمكّن إيران من إخضاعها لهيمنتها ونفوذها، ولم يتم تسليمها لإيران، كما أن الحزب الديمقراطي الكوردستاني يحصد دوماً المركز الأول في عموم الانتخابات التي تجري في إقليم كوردستان. وعلى الرغم من أنه كان يتمتع في كثير من الأحيان بسلطة تشكيل حكومة بمفرده، إلا أنه فضّل دوماً تشكيل حكومة ائتلافية أو حكومة تحالفية توافقية، ومن المرجح أن يتسنّم الصدارة في الانتخابات المقبلة أيضاً من بين جميع الأحزاب والأطراف الكوردستانية، ومع ذلك، فإن الحزب الديمقراطي الكوردستاني لا يتنافس مع الأحزاب وحدها في هذه الانتخابات، ولكن يتنافس ضدّ الجبهة العراقية المشتركة والدولة الإيرانية وبعض اللوبيات للدول الغربية والحشد الشعبي وحزب العمال الكوردستاني بكك معًا. أي بمعنى أنه يتنافس مع القوى الإقليمية والدولية في هذه الانتخابات وليس مع الأحزاب في كوردستان فقط، وممّا لا شكّ فيه أن الأحزاب والأطراف المعارضة ستحيك العديد من المؤامرات في هذا المعترك الانتخابي، بل حتّى من بدايتها يبدو أن هذه الانتخابات استهلّت بالتدخّلات والتزييف وما إلى ذلك من أشكال التنافس غير الشريف.
قنوات التدخل في مصير وقدر الحكومة الاتّحادية لإقليم كوردستان: الاتحاد الوطني الكوردستاني وحزب العمال الكوردستاني وحركة بابليون
كان قرار المحكمة الاتّحادية العراقية العليا في 21 شباط/ فبراير 2024 بصدد انتخابات كوردستان، بداية مؤامرة بشعة ضدّ الحزب الديمقراطي الكوردستاني (PDK) وتمّ تنفيذ هذه المؤامرة من قبل المؤسّسة المزعومة بـ “القضاء العراقي المستقل”، وما يلفت النظر هو: من هم الذين تقدّموا بطلب إلى المحكمة الاتّحادية لتغيير قانون الانتخابات؟! بالطبع كان الاتّحاد الوطني الكوردستاني وحركة بابليون والحشد الشعبي. تحالفت هذه الأطراف معاً من أجل تغيير القوانين الانتخابية لإقليم كوردستان، تمّ وضع قوانين فقط على أساس ضمان فوز شركاء السلطة الشيعية في العراق بالمزيد من المقاعد والأصوات، وخير مثال على ذلك، هو أن القانون الجديد أعطى مقعد كوتا للتركمان في السليمانية حيث لا يوجد تركمان هناك!
ونتيجة لذلك، رأت الجبهة المناهضة لكوردستان أنه من المناسب مهاجمة كوردستان عبر قنوات خاصة بها تحمل بصمة كوردايتية بدلاً من مهاجمتها واحتلالها بهوية استعمارية احتلالية واضحة، فدخلوا إقليم كوردستان من خلال إنشاء قنواتها الخاصة ذات اللون والطابع الكوردي، علماً أن هذه الاستراتيجية يتمّ تنفيذها منذ عام 2014، فالدولة العراقية التي تحاول مهاجمة كوردستان منذ يوم تأسيسها قبل 101 عام، وبعد حملات الأنفال والإبادات الجماعية والمجازر والأسلحة الكيمياوية… هاجمت كوردستان هذه المرّة بسلاح النفط والرواتب والموازنة والمحاكم والقضاء…
هناك أطراف كوردية تصوّر العراق بصورة جيدة بينما تحاول تسقيط كوردستان وتشويه صورتها، عموم هذه الأطراف لها علاقات مظلمة وسرية مع جهات مظلمة معادية للكورد وكوردستان، لذا ينبغي على الكورد أن يروا:
القرارات التي اتّخذتها الدولة العراقية بحقّ كوردستان، هي قرارات لا علاقة لها بمعايير حقوق الإنسان مثل الديمقراطية والعدالة والمساواة وغيرها، القضية هي قضية الاستيلاء والسيطرة على كوردستان.
التعويضات التي تدفعها بغداد للاتّحاد الوطني الكوردستاني والعمال الكوردستاني هو مقابل تدمير وانهيار كيان إقليم كوردستان، فالدولة العراقية تمنح امتيازات وأسلحة وأموال وغيرها لهاتين القوتين للاستفادة من الظروف السياسية لمنع كوردستان من التوسّع وتقليص أراضي كوردستان واستسلام الحزب الديمقراطي الكوردستاني.
تكافح بغداد بشكل خاص لتعزيز وتقوية الاتّحاد الوطني الكوردستاني والذي يُعتبر أحد هذه القوى، وما مسالة أصوات الاتّحاد الوطني في انتخابات مجالس المحافظات العراقية الأخيرة وقضية محافظ كركوك إلّا أساليب لتنفيذ استراتيجية بغداد من قبل الاتّحاد الوطني بشكل أفضل، وتاريخيًا، كان الاتّحاد الوطني الكوردستاني في وضع لا يمكنه فيه تحمّل ضغوطات وحماية نفسه، بل دائمًا ما كان يستسلم بسرعة. ولهذه الحقيقة وهذا السبب تمّت رؤيته مناسباً للتعاون بين إيران وبغداد.
ليست أزمة رواتب، بل هي تدخّلات في الانتخابات
بدأنا مقالنا بتوضيح الأسباب وراء عدم دفع الرواتب، ولكن كما ترون، القضية أجبرتنا على الحديث عن الاستراتيجيات التاريخية والحالية والمستقبلية للجبهة المناهضة المعادية للكورد وكوردستان ووكلائها وحلفائها من الكورد، لأن الحقائق والأحداث والخطط يجب أن يتم تسميتها بشكل صحيح وكذلك تقييمها بشكل صحيح، فالحق أنه لا توجد أزمة رواتب في كوردستان، والحكومة العراقية ستقوم بتأخير مسألة الرواتب لما بعد الانتخابات في محاولة منها إبداء حكومة إقليم كوردستان الحالية المذنب والسبب الرئيس لهذه المشاكل. كما أنها ستهيئ أرضية مناسبة للكيانات والأحزاب التابعة والخاضعة لها في هذا المعترك الانتخابي، هذا هو جوهر القضية، وانطلاقاً من اليوم ولغاية إجراء الانتخابات في إقليم كوردستان، سنرى الكثير من الأحداث المظلمة والمؤامرات والدجل… لذلك، فإننا سوف نولّي مزيداً من الاهتمام لموقف الجبهة المناهضة المعادية لكوردستان في أي حدث يحدث في كوردستان.