الجزء الثاني: من الذي طبع منشورات 15 آب/ أكتوبر؟
تسلّلت المجاميع الأولى من مسلّحي حزب العمال الكوردستاني بكك إلى جنوب البلاد (إقليم كوردستان) عام 1982، لكن، كانت هناك العديد من المشاكل والمتاعب بانتظار هذه المجموعات الدعائية المسلّحة للتنظيم، لو أردنا دراستها وفق عناوين رئيسية.
من أتوا لتحرير الكورد وخلاصهم… لم يكونوا يعرفون اللغة الكوردية!
أولاً وقبل كل شيء، لم يقم حزب العمال الكوردستاني بكك بتحليل ودراسة اجتماعية-سياسية وعسكرية وجغرافية جيدة للمنطقة، لذلك، لم تواجه المجموعات الأولى مشاكل وتحديات تنظيمية عسكرية فحسب، بل واجهت أيضًا الواقع الاجتماعي والثقافي لمنطقة بوتان-زاگروس، ولم تنسجم معها، في السبعينيات والثمانينيات، كان بروفايل الكوادر التنظيمية للعمال الكوردستاني بكك مختلفاً تماماً عن بروفايل سكان وأهالي المنطقة التي كان من المتوقع تحويلها لساحة صراع ومقاومة (بوتان-زاگروس) إذ كانت مبادئ وأسس المنطقة معدومة في تركيبة مقاتلي التنظيم، أقام حزب العمال الكوردستاني علاقات مع مناطق جولميرك وشرنخ وفق قرار الحرب المسلّحة والنضال المسلّح، فبدايةً، لم تكن هذه المجموعات الدعائية المسلّحة تتحدّث بلغة أهالي المنطقة، كانت تلك المرة الأولى التي تواجه فيها جبال كوردستان اللغة التركية وجهاً لوجه بفضل الآبوجيين، للأسف الشديد، من أتوا إلى المنطقة لتحرير الكورد وخلاصهم… لم يكونوا يعرفون التحدّث باللغة الكوردية! وهذا ما خلق شكوكًا جدية بين أهالي المنطقة حول الآبوجيين، في تلك السنوات، وفي جولميرك وشرنخ بالذات، كان يُنظر إلى اللغة التركية وتعرّف على أنها لغة العدو، فيا تُرى: هل من الممكن أن من قدموا إلى المنطقة هم أعداء؟ وإذا لم يكونوا أعداءاً، فلماذا لا يعرفون التحدّث باللغة الكوردية ويتحدّثون بلغة العدو؟! علماً أنه لم يكن مصطلح (أخوة الشعوب) دارجاً آنذاك، ولم يكن معروفاً كما لم يُسمع من قبل في جولميرك وشرنخ…
كانت اللغة التركية لغة العدو، كما كان هذا الفهم هو مقياس التعبير عن الكوردايتية والوطنية والقومية الكوردية، يقول الفيلسوف أدورنو: “اللغة الأم هي وطن الإنسان وهويته” لكن حزب العمال الكوردستاني كان يزعم ويقول إنّه سيحرّر الوطن أي كوردستان باللغة التركية! العامل الأساسي الذي يجعل من أية أمة أمّة حقيقية هو لغتها، اللغة هي هوية الأرض التي ولدت عليها الأمة، مهما كانت لغتك، فكذلك هي هويتك، وعندما قدم حزب العمال الكوردستاني إلى جولميرك لم يكن عدد الناطقين باللغة التركية في المنطقة يتجاوز ويتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة! ولم تتمكّن الدولة التركية طيلة تأريخها ومن وراء شتى أساليبها المختلفة وممارساتها التتريكية من أن تعلّم شعب جولميرك اللغة التركية، لكنّ العمال الكوردستاني بكك ومن خلال كفاحه باسم “الكوردايتي” الذي دام أربعين عاماً، استطاع تعليم رعاة جولميرك على التحدّث بلغة الأتراك، ومهما افتخرت الدولة التركية بحزب العمال الكوردستاني بكك فهو قليل بالنسبة إلى ما أسداه هذا التنظيم من خدمات وأفضال إلى الدولة التركية، فبذور تتريك المنطقة زرعت في ظلّ حزب العمال الكوردستاني بكك، يقول أوجلان في مذكراته: “حياتي كلّها كانت باللغة التركية، فحتى عندما كنت بعيدًا هناك (أي في دمشق) لم أتعلّم كلمتين أو عبارة من أي لغة، كنت أعرف القليل من اللغة الكوردية لكي أتواصل مع الناس حولي، لكن كلّ ما أفعله، أفكاري وكفاحي ونضالي التنظيمي أديره باللغة التركية” ويقول: “لقد علّمت رعاة جولميرك أيضاً على التحدث باللغة التركية كأهالي إسطنبول” وكما يتبين ويفهم من كلام آبو هذا، فإن حزب العمال الكوردستاني كان يدير كافة أعماله ونضالاته وأنشطته باللغة التركية. وعلى الرغم من أن التحدث باللغة التركية كان يُنظر إليه في البداية على أنه من أجل تعليم الطلاب والمبتدئين داخل أطر حزب العمال الكوردستاني، إلا أنه أصبح من الواضح أن هذا كان يتمّ من أجل خدمة الدولة التركية.
حزب العمال الكوردستاني بكك ليس حركة وطنية
وأمّا لماذا اختار حزب العمال الكوردستاني هذه المنطقة لنضالاته وعملياته التنظيمية الأولى، فيعود السبب إلى أن حزب العمال الكوردستاني كان يختار مناطقه وجبهاته التنظيمية من منظور طبقي، ففي المدن التي تتواجد فيها الطبقة العاملة، كان يصب جام اهتمامه على التنظيم. هذا المنظور الطبقي لم ير القرى باعتبارها “ديناميكية الثورة”. وعندما ننظر إلى البنية الاجتماعية-الاقتصادية للجغرافية التي نشأ فيها حزب العمال الكوردستاني وانتظم، نرى أنها حركة طبقية وليست حركة وطنية-قومية، وقد يكون هذا هو السبب الكامن وراء التقارب المحفوف بالشكوك والريب حول الحزب من قبل سكان وأهالي المنطقة، ولكن، بعد أحداث انقلاب 12 أيلول/ سبتمبر، فقد حزب العمال الكوردستاني مراكزه وجبهاته التنظيمية الأولى، واضطر إلى الانسحاب واللجوء إلى المناطق الجبلية، كان انسحاب النضالات التربوية والتثقيفية من لبنان نحو جبال كوردستان يمثّل مخاطر كبيرة وجدية تهدّد الخط الأيديولوجي لحزب العمال الكوردستاني بكك، كان يمكن لمنطقة جولميرك-بوتان أن تهيمن على الخط اليساري لحزب العمال الكوردستاني بهويتها الوطنية وقيمها الثقافية الكوردايتية، لأن شعب المنطقة كان يعيش وفق كافة قيم ومبادئ الكوردايتي الغاية في البساطة والطبيعية، وكان لزاماً على المفاهيم والمبادئ اليسارية في هذا الجو القومي والوطني أن تبتعد وتنحرف عن جوهرها الأيديولوجي، وهذا ما كان يشكّل خطراً كبيراً على الخط اليساري لبكك، تحتوي ديالكتيك الجبهة العملية على إمكانية احتواء أي تغيير داخله، في تلك الحقبة، قادت الجبهة الوطنية والواقع المجتمعي للمنطقة حزب العمال الكوردستاني بكك نحو التغيير، ظهرت هناك هوّة واسعة بين خط بكك الحزبي والخط العسكري على الساحة العملية، وبلا شكّ، أثّر هذا التغيير أيضًا على الخط الأيديولوجي والتنظيمي للعمال الكوردستاني بكك، وعندما انتقلت القوات المسلّحة والتنظيم العسكري لبكك (HRK -قوات تحرير كوردستان- وARGK- جيش تحرير الشعب الكوردي) إلى الخط الوطني، بقي حزب العمال الكوردستاني على خطه الأيسر، بمعنى، طالما يتحرّك بكك نحو العصب الرئيسي للكوردايتي، فإنه يفقد أيضًا خصائصه الطبقية، وخصوصاً طالما توجّه صوب بوتان-زاگروس-بهدينان، فإنه يقع تحت تأثير الفكر القومي والوطني.
أوجلان يقيّم الخطأ الوطني القومي كـ (خطّ مرتزقة)
إن توجّه حزب العمال الكوردستاني بكك صوب الخط الوطني كان ظرفاً خارجاً عن إرادته والذي تطوّر بشكل جذري مع قفزة 15 آب، قيّم أوجلان هذا الخط الوطني الذي شهد تقدّماً بأنه “مرتزقة-جحوش” ورآه أعظم المخاطر التي تهدّد خطّ زعامته وقيادته، المنطقة التي كانت قد تمّ تحديدها كأساس للعمليات المسلّحة والكفاح المسلّح كانت بمثابة جزء من جنوب كردستان اجتماعياً وثقافياً وتراثياً وجغرافياً، كان لشعب المنطقة هويته السياسية الخاصة من خلال مشاركته في النضال القومي-الوطني (حركة البارزاني) في جنوب كوردستان. كانت العلاقات القبلية والعشائرية والمصاهرة مرتبطة ومتشابكة بشكل وثيق، نصف القبائل الموجودة في باكور نصفها الآخر في الجنوب-باشور (إقليم كوردستان) فعلى سبيل المثال، تعيش عشائر زازا، گردي، هركي، دوسكي، أورماري، بنيانشي، نيروه، ريكاني، قشور، ژيركي، گويى، بوتي وغيرها من بطون الأرتوشيين تعيش في جزءي كوردستان، لكن أهالي وشعب هذه المنطقة تعرّضوا للرضوخ والصدمات اليومية لمعاهدة لوزان، كانت الحدود تفصل حتى أحياء بعض القرى عن بعضها البعض. وبحسب مزاعم المحتلين المستعمرين، فإن نصف القرية تركية والنصف الآخر عربي. ألحقت معاهدة لوزان أكبر الأضرار بالمنطقة من الناحية القومية الوطنية والفيزيائية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، هذه الحقيقة جعلت مستقبل ومصير الناس على جانبي الحدود مشتركاً، لذلك، كان لشعوب المنطقة هويتها السياسية قبل حزب العمال الكوردستاني بكك.
انتشار حزب العمال الكوردستاني في بوتان وهكاري عن طريق إرث البارزاني
كانت حركة البارزاني هي الممثل السياسي والثقافي والعسكري لهذه الجغرافية، هذه الحركة مثّلت القيم القومية الوطنية والدينية لأبناء المنطقة. وكان حزب العمال الكوردستاني على علم بالواقع الاجتماعي والسياسي للمنطقة. كما كان على علم أنه لا يمكنه التحرك بحرية وكما يشاء، بل كان عليه أن يتصرّف ويتحرك وفقاً لمتطلبات الواقع السياسي والاجتماعي للمنطقة. النظريات اليسارية التي حفظها حزب العمال الكوردستاني عن ظهر قلب قد يكون لها تأثير على ضفاف نهر الفرات، لكن لم يكن لها أي تأثير على الإطلاق على ضفة نهري خابور والزاب. على مدار المائة عام الماضية، كانت هذه المنطقة بجبالها ووديانها وصخورها في خضم النضال من أجل حرية كوردستان، لهذا كانت تمتلك تراثًا عريقاً واصيلاً، بعبارة أخرى، بمعنى أنها لم تكن منطقة بهذه البساطة من الناحية السياسية، ولو لم يتصرّف ويتحرّك حزب العمال الكوردستاني وفقاً لهذه الحقيقة، لكانت نهايته مثل نهاية رحلة الاتّحاد الوطني الكوردستاني في منطقة هكاري عام 1978. ولأن المنطقة تأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، كان ينبغي على حزب العمال الكوردستاني أن يوطّد ويعزز علاقاته مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني. لذلك كان من الضروري لسببين أن يوطّد ويعزّز العمال الكوردستاني بكك علاقاته مع الديمقراطي الكوردستاني، الأول؛ لكون أبناء المنطقة ذوي هوية سياسية ديمقراطية كوردستانية شاركوا بفعالية ونشاط في نضال حركة البارزاني. فأي محاولة لحزب العمال الكوردستاني لتعريف أهالي المنطقة بهويته السياسية ستتمخّض عنها ردود فعل جدية وصارمة ولمّا كان بمقدوره الصمود والبقاء في المنطقة، فتصرف حزب العمال الكوردستاني بحكمة وخاض نضالاته على نفس أساس السلطة العسكرية والسياسية للحزب الديمقراطي الكوردستاني. ثانيًا؛ لا يتمتع حزب العمال الكوردستاني بالتدريب العسكري الكافي للحرب المسلّحة، ولا يعرف الحياة الجبلية، ولا يعرف المبادئ الأساسية للحرب البارتيزانية وما إلى ذلك.
العمال الكوردستاني نفّذ قفزة 15 آب في الكفاح المسلّح بفرص الحزب الديمقراطي الكوردستاني
كان حزب العمال الكوردستاني بكك بحاجة ماسّة إلى الخبرة العظيمة للحزب الديمقراطي الكوردستاني. فكان الديمقراطي الكوردستاني يحكم المنطقة، وكان له قواعد ومقرات ومعسكرات تدريب، قوات البيشمركة كانت تتمركز على جانبي الحدود وكانت لها السيادة الجغرافية. أدار حزب العمال الكوردستاني بكك نضالاته الدعائية المسلحة بدعم من هذه القوة للديمقراطي الكوردستاني (PDK). استقرّوا وأقاموا في معسكرات البيشمركة، أكلوا أرغفتهم وأشبعوا بطونهم من مطبخهم، استخدموا معداتهم العسكرية، باختصار، تعلّموا أبجديات حرب الگريلايتية والبارتيزانية من الحزب الديمقراطي الكوردستاني. كافة الاستعدادات لقفزة 15 آب عام 1984 كانت على حساب الفرص التي أتاحها لهم الديمقراطي الكوردستاني، بحيث يمكننا القول بسهولة؛ حزب العمال الكوردستاني مدين في قفزته في 15 آب للفرص التي وفّرها الحزب الديمقراطي الكوردستاني، ولو لم يقدّم الحزب الديمقراطي الكوردستاني الدورات التدريبية والمعسكرات الأساسية والإمكانيات المادية والمعنوية لكوادر حزب العمال الكوردستاني في مناطق (حفتنين، زاب، مروس ولولان) الخاضعة لسيطرته، أولئك الكوادر الذين لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة، لما كانت هناك قفزة باسم قفزة 15 آب ولا كانت بالإمكان، ولما كان هناك اليوم حديث أو شيء باسم گريلا حزب العمال الكوردستاني، بل حتى بيان قفزة 15 آب نفسه كتبه مسؤول إعلام وصحافة الحزب الديمقراطي الكوردستاني المرحوم فلك الدين كاكيي ونقّحه، ولولا دعم الديمقراطي الكوردستاني، لتمّت تصفية وحدات الدعاية المسلّحة التابعة لحزب العمال الكوردستاني وانقرضت وانتهت في غضون عام. وسرعان ما أدركت هذه الكوادر القيادية أنهم لا يستطيعون البقاء في جبال كوردستان ليوم واحد بما حفظوه من الأيديولوجيات، كما كان هناك عامل مهم آخر ساعد في بقاء حزب العمال الكوردستاني في منطقة بوتان زاگروس ألا وهو معاهدة “الوحدة الوطنية-القومية” الموقعة مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني.
رحلة محمد كاراسونگور الاستكشافية إلى روجهلات كوردستان- كوردستان إيران عام 1980 كانت أساس وقوام بناء وإقامة العلاقات والاتصالات مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني. أثمرت هذه الجهود وتمخّضت عن ميثاق الوحدة الوطنية-القومية بين حزب العمال الكوردستاني والحزب الديمقراطي الكوردستاني (1982-1983) والذي فتح الطريق أمام حزب العمال الكوردستاني ومنحه بطاقة الدخول والبقاء في جبال كوردستان. ومن المهم جدّاً دراسة هذه العملية عن كثب من منظور تأريخي.