مع انهيار نظام بشار الأسد في سوريا في 8 كانون الأول/ ديسمبر وسيطرة المعارضة السورية على مقاليد الحكم في العاصمة السورية دمشق، بدأت مرحلة جديدة في الشرق الأوسط. وفي ظلّ أزمة الشرق الأوسط التي بدأت عقب غزو صدام حسين للكويت في أغسطس/ آب 1990، استمرت هذه التغييرات والتطورات لغاية اليوم. وكان احتلال الكويت وأحداث 11 سبتمبر في الولايات المتّحدة الأمريكية وانهيار نظام صدام في أبريل/ نيسان 2003 والربيع العربي أهم مراحل هذه الحقبة، بينما مثّل سقوط نظام الأسد وانهياره أحد أعلى مراحل هذه العملية.
الرئيس بارزاني لعب دوراً في انهيار نظامي الاحتلال
خلال هذه السنوات الأربع والثلاثين من الأزمة المستمرة في الشرق الأوسط، كان هناك العديد من الدول والمؤسّسات في الساحة السياسية. ولكن لم يشاهد سوى عدد قليل من الشخصيات والرؤساء دورهم في هذه العملية وظلوا في قلب السياسة. الرئيس بارزاني كان أحد هؤلاء الرؤساء الذين شهدوا أزمة الشرق الأوسط برمتها، والذي يحتلّ مكانة بارزة في سياسة المنطقة. وكان من أهم القادة الرئيسيين في انهيار حزبي البعث اللذين بنيا على أساس تدمير كوردستان والعداء للكورد وقمعهم واضطهادهم والقضاء عليهم.
لقد كان الخط السياسي للرئيس بارزاني ضدّ نظام صدام صحيحاً وحقّاً، فهو كان صاحب رؤية حوارية تفاوضية سلمية، لكنه لم يغفل قط عن خيار الصراع المسلّح ولم يتخلّ عنه أبداً، لم يقبل صدام خيار الحوار والتفاوض. نتيجة لذلك، لعب الرئيس بارزاني دوراً مهماً في انهياره وسقوطه، إلى درجة أن قال الجنرال الأميركي المتقاعد وأول حاكم مدني يحكم العراق، جاي غارنر: “إن نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين لم يكن ليسقط على يد تحالف دولي قادته الولايات المتحدة، لولا الدور الذي لعبه الرئيس مسعود بارزاني في ذلك”.
وبعد عشرين عاماً، وفي 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، شكرت هيئة التفاوض السورية لقوى الثورة والمعارضة في بيان لها الزعيم الكوردي مسعود بارزاني لما له من دور بارز وأثر عميق في التعامل مع القضية السورية ودوره في ودعمه لحقوق الشعب السوري وسقوط نظام الأسد.
تحقّق التوقعات السياسية للرئيس بارزاني خلال حقبة الربيع العربي…
منذ عام 1990 ولغاية اليوم، يمكننا القول إن السياسة العامة للحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة الرئيس بارزاني كانت ناجحة. وخاصة بعد عام 2011 وبالتزامن مع الربيع العربي، حيث تحقّقت جميع توقعات الرئيس بارزاني ووجهات نظره حول روجآفا كوردستان-كوردستان سوريا، فكان بارزاني يقول بكلّ صراحة: “أخطّا الكورد الذين دعموا نظام الأسد في روجآفا كوردستان، واتبعوا سياسة خاطئة معوجة، ويجب على الكورد أن يظلوا مستقلين حياديين قدر استطاعتهم وقوتهم، وأن يقيموا علاقات جيدة مع المعارضة وأن يظهروا وجهة نظر لا ترفض الخيار التركي بشكل كامل”.
إن اغتيال مشعل تمو في 7 تشرين الأول 2011، جعل الرئيس بارزاني يفهم جيداً أهداف النظام السوري في دمشق، فبعد جريمة اغتيال تمو، أرسل نظام الأسد دعوة للرئيس بارزاني لزيارة دمشق، هدف الزيارة هو التعاون والتنسيق المشترك في الأحداث التي تشهدها سوريا وتقريب الكورد من النظام ودفعهم إلى حضنه. لكن الرئيس بارزاني رفض دعوة الأسد ولم يذهب إلى دمشق، انطلاقاً من رؤيته الثابتة أن نظام الأسد محكوم عليه بالانهيار والسقوط وأنه لا ينبغي على الكورد إطالة عمر هذا النظام.
الرئيس بارزاني يوظّف كلّ خبرات وتجارب الحزب الديمقراطي الكوردستاني في خدمة روجآفا كوردستان
عوضاً عن ذلك، رسم الرئيس بارزاني سياسة للوحدة الكوردية وحدّدها، في البداية صاغ برنامجاً خاصاً وخطى خطوات جدية لتقوية الحركات السياسية الضعيفة في روجآفا كوردستان وبناء علاقاتها الخارجية، وجعل من أربيل مركزاً رئيسياً تستفيد منه أحزاب وحركات روجآفا كوردستان، فكانت جميع الأحزاب السياسية، من بينها حزب الاتّحاد الديمقراطي، تستقر وتتمركز في أربيل. كانت تتم دعوة واستضافة أشخاص مثل آلدار خليل وإلهام أحمد وصالح مسلم في أفخم الأماكن وأرقاها في أربيل. كانت تتمّ حمايتهم وحماية أمنهم، بل حتّى سُمح لهم باستخدام المطارات دون جوازات سفر حتّى.
وكذلك، في البداية، توسّط للعديد من الاجتماعات واللقاءات بين حزب الاتّحاد الديمقراطي (PYD) مع القوى الغربية، وخاصة مع الدبلوماسيين الأمريكيين والأوروبيين. بل حتّى تمّ إجراء اتصالات له مع تركيا.
وعندما بدأت جبهة النصرة احتلالها لسري كانيه عام 2012، تمّ توفير الأسلحة والإمدادات بكافة أنواعها بل وكافة أنواع الدعم، وفتحت أبواب مستشفيات أربيل على مصارعها لاستقبال جرحى الحرب.
لكن الرئيس بارزاني كان يعلم أنه بالدعم الخارجي وحده لن تسير كلّ الأمور بشكل صحيح ولن تنجح، لذلك فإن أفضل ما يمكن فعله هو توحيد القوى الكوردية في روجآفا كوردستان وبناء جبهة وحدة وطنية. ومن أجل هذا الهدف الرئيسي، قدّم الرئيس بارزاني كلّ إمكاناته وجعلها في خدمة روجآفا كوردستان.
معاهدة أربيل ما زالت سبيلاً للحلّ بالنسبة لروجآفا كوردستان
تم توقيع اتفاقية-معاهدة أربيل في 11 يوليو 2011 بين أحزاب المجلس الوطني الكوردي في سوريا وحزب الاتّحاد الديمقراطي. حددت هذه المعاهدة مبادئ وحقوق ومسؤوليات وواجبات الشركاء، وكان قرار إنشاء “قيادة كوردية عليا” من شأنه أن يغيّر قدر روجآفا كوردستان، فلو تمّ تنفيذ معاهدة أربيل، لما طال بقاء نظام الأسد لغاية اليوم، ولما تضرّر روجآفا كوردستان من نزيف الهجرة والنزوح مثلما عليه اليوم…
القوى التي أعاقت وعرقلت معاهدة أربيل هي حزب العمال الكوردستاني وإيران والكيانات والمجاميع الشيعية وروسيا وبعض اللوبيات-جماعات الضغط المتواجدة في الدول الغربية. كما أن إدارة حزب الاتّحاد الديمقراطي في روجآفا كوردستان وعوض أن تتبنّى هذه المعاهدة وتطبقها وتخرج بعيداً عن أطر آيديولوجيات حزب العمال الكوردستاني، لم تنفذ معاهدة أربيل وتحرّكت كذراع للعمال الكوردستاني بكك، وردمت معاهدة أربيل ولم تُنفّذ بنودها، وأدخل حزب العمال الكوردستاني بكك روجآفا كوردستان في متاهة معادلة إيديولوجية بالغة التعقيد عديمة الفائدة حتى جرّدها من اسمها (روجآفا) فلم يعد لها اسم الآن، بل تحوّلت لكانتونات لا دلالة ولا معنى لها كما هي الآن.
نعم، أدرك الرئيس بارزاني التحوّل الذي بدأ مع الربيع العربي وخطى خطوات جادة لتوحيد الكورد ليس في روجآفا كوردستان فحسب بل عموم الكورد في كافة أجزاء كوردستان، وبعث رسالة آنذاك إلى الرئيس المشارك لمنظومة المجتمع الكوردستاني (KCK) آنذاك، مراد قره يلان، وبدأت أعمال المؤتمر الوطني الكوردي.
لكن مرة أخرى، أصيبت الجبهة التي تقودها إيران المذكورة أعلاه بخيبة أمل كبيرة واستاءت من اجتماعات ولقاءات ومفاوضات الوحدة الوطنية الكوردية، ومطالبة إمرالي بإنهاء اليسار التركي في المؤتمر الوطني، وكذلك تحالف جميل بايك مع إيران، كلّ هذه المحاولات والجهود التدميرية التخريبية لم تسمح بحدوث أي شيء جيد لمصلحة روجآفا كوردستان.
ولا تزال الاستراتيجيتان اللتان صمّمهما وصاغهما الرئيس بارزاني تلعبان دوراً إيجابياً في حلّ القضايا.
وعلى الرغم من كلّ العقبات والعراقيل والصعوبات والمشاكل التي خلقها حزب العمال الكوردستاني بكك، أعاد الرئيس بارزاني الوحدة الكوردية إلى الوجود أثناء احتلال كوباني، وتمّ توقيع معاهدة دهوك، وأرسل بيشمركة كوردستان إلى كوباني. والأهم من ذلك كلّه، أن الرئيس بارزاني أحضر قوات التحالف الدولي إلى روجآفا كوردستان. فإذا كانت هناك قوات أمريكية في روجآفا كوردستان اليوم، فالفضل في ذلك يعود إلى نضال الرئيس بارزاني وجهوده.
عام 2013، ومن أجل منع هجرة الكورد إلى لبنان والأردن وتركيا، دعت حكومة إقليم كوردستان كورد روجآفا كوردستان باللجوء إلى إقليم كوردستان، ذلك على الرغم من كلّ الصعوبات الاقتصادية، وانتقل 200 ألف كوردي من روجآفا واستقرّوا في إقليم كوردستان، وكانت هذه أيضاً خطوة سليمة في الاتّجاه الصحيح، واليوم، أعداد أهالي روجآفا كوردستان في إقليم كوردستان أكبر من عددهم في قامشلو بروجآفا كوردستان، ممّا يحافظ على التركيبة السكانية وديمغرافية المنطقة.
تبنّى حزب العمال الكوردستاني موقفاً معاديًا للرئيس بارزاني بكلّ الطرق وفي كافة مراحل هذه العملية، وكان يتمّ إحضار بعض المقاتلين للتحدث ضدّ بارزاني على شاشات التلفاز، لكن الرئيس بارزاني، وعلى الرغم من هذا الكمّ الهائل من العداء من جانب حزب العمال الكوردستاني بكك، استمرّ في دعمه لروجآفا كوردستان، وفي عام 2019، قال بصدد عملية عفرين: “سنبذل كلّ ما في وسعنا لمنع تعرّض شعب روجآفا كوردستان لكوارث ومجازر…”.
وخرج ضدّ العمليات العسكرية التركية في سري كانيه، وكذلك ضدّ التغيير الديمغرافي في عفرين. وقدّم جميع أنواع المساعدة المادية لروجآفا.
واليوم، تجري التطورات والمستجدات على الساحة السورية وروجآفا كوردستان وفق توقعات وسياسات الرئيس بارزاني. بينما انهار كلّ ما تنبأ به وتوقّعه حزب العمال الكوردستاني بكك لروجآفا كوردستان، فحتّى قبل شهرين، كان حزب العمال الكوردستاني بكك يقول إن “المجلس الوطني الكوردي في سوريا (ENKS) يرفع علم المرتزقة” واليوم اضطرّ هو إلى تبنّي هذا العلم والاعتراف به بل ورفعه على كافة مؤسّسات ومجالس ودوائر إدارته الذاتية! فهم مثل الأسد كانوا يطلقون على أشخاص مثل الجولاني اسم “المرتزقة” واليوم يلتمسون وساطة للتفاوض وعقد اجتماع مع الجولاني! بل يطلبون من الرئيس بارزاني نفسه أن يلعب دوره في هذا المجال!
نعم، لو لم يعرقل حزب العمال الكوردستاني بكك الاستراتيجية التي طرحها الرئيس بارزاني لروجآفا كوردستان في عام 2011، لكانت العلاقة بين سوريا وروجآفا كوردستان أفضل بكثير اليوم وكانت العملية أكثر سلاسة بكثير…