الأنفال… هولوكوست البعث التي لا تنطفئ

الأنفال... هولوكوست البعث التي لا تنطفئ

بقلم الدكتور: محمد العرب

أما آن للجرح الكوردي أن يندمل؟ جرحٌ يُنبت الألم في كلّ زاوية من الذاكرة، حيث تنادي العظام المدفونة في رمال النسيان، وحيث يحمل الصمت صرخات أمٍ تحتضن طفلها للمرة الأخيرة، في وداعٍ أبدي.

في زاوية منسية من العراق، في صحراء تلّ الشيخ القاحلة، انكشفت مقبرة تحمل بين طياتها مأساة صرختها تضجّ في الكون كله. رفات خمسين امرأة وطفلاً، ضحايا عمليات الأنفال الصدامية البعثية، تمّ العثور عليها بعد عقود من الصمت، وعقود من العذاب الذي لم يرحل.

نساء كورديات، يلتففن حول أطفالهن، أجسادهن المتهالكة تروي قصة لحظة أخيرة، لحظة بين الرعب والأمومة. هؤلاء النساء، بملابسهن التقليدية، ملونة كأحلامهن التي دفنت معهن، احتضن أطفالهن في حضن أخير، كأنهن يحاولن صدّ الموت نفسه. لكن الموت كان أسرع، وأشد قسوة.

رصاصات غادرة أنهت حياتهن. دفنوا في الصحراء بعيداً عن عيون العالم، كأن الجريمة يمكن أن تُنسى إذا اختبأت في الرمال. سنوات مرت، ورمال الصحراء لم تسكت، ولم تبتلع الحقيقة. والآن، يُفتح هذا الجرح من جديد.

المشهد في تلك الحفرة الجماعية ينهش القلب. عظام النساء، عظام أطفالهن الصغيرة، قصص الحب والضحك والبكاء التي انتهت هنا، في هذه الحفرة النائية التي تطلب الوصول إليها السير لأميال عبر الفراغ. أيدي الأمهات لا تزال تلف أجساد أطفالهن الصغيرة، وكأنهن يحمينهم حتى في الموت.

لكنّ الجريمة لم تُدفن معهن. إنها مستمرة. آباء وأجداد من أطلقوا الرصاص عليهم، من دفنوهم هنا، يقفون اليوم ضدّ كوردستان وأهلها، نعم هذا هو التوصيف الدقيق، يحاولون خنق أرزاقهم وكأن الحقد لا يموت! كيف يمكن للقلوب أن تحمل هذا الكمّ من الكراهية؟ كيف يستمر إرث القتل والقمع عبر الأجيال؟

هذه ليست مجرّد مقبرة جماعية. إنها شهادة على بشاعة الإنسانية حين تفقد روحها، حين يتحوّل الإنسان إلى قاتل لا يرحم طفلاً ولا امرأة، إنها صرخة كلّ أم، كلّ طفل، كلّ كوردي أُزهقت روحه أو حُرم من حقه في الحياة.

في تلّ الشيخ، لم يُقتل النساء والأطفال فقط. قُتل الحلم، قُتلت الإنسانية، قُتل المستقبل. والآن، هل يسمع العالم صرخة العظام؟ أم أن رمال الجبناء ستبتلع حقيقة الشجعان مرة أخرى؟

ختاماً… إن الفكر البعثي الإقصائي، الذي تغذّى على الكراهية واستباح دماء الأبرياء، ليس إلّا ظلاً إرهابياً متخلفاً يسعى لدفن الإنسانية في مقابر النسيان. لا مستقبل لأمة تحيا تحت عباءة الطغيان، ولا كرامة لمن يغذّي الحقد على حساب الحياة.

مقالات ذات صلة