الجزء الرابع
بقلم… ماهر حسن
كان التحدّث بالكوردية، وهو فعل طبيعي وبسيط، يتحوّل إلى سبب للملاحقة والخوف، حيث يُنظر إليه كجريمة تستوجب العقاب. فقد عاش الكورد في حالة من التوتّر المستمر، يخشون التعبير عن أنفسهم بلغتهم خوفاً من العواقب. هذا الخوف المستمر لم يكن نابعاً من قوانين مكتوبة فقط، بل من ممارسات قمعية صارمة تهدف إلى تكميم أفواه الكورد وفرض الصمت على هويتهم.
عندما نقارن ذلك بما يزعم البعض من فئات أخرى تعرّضت للظلم على يد النظام السوري، نجد أن معاناتهم لم تكن بنفس الدرجة من الشمولية والقسوة. فالكورد لم يتعرّضوا فقط للظلم السياسي أو الاجتماعي، بل كان القمع الممارس ضدّهم موجهًا بشكل مباشر إلى هويتهم الثقافية واللغوية. في حين أن بعض الفئات الأخرى قد عانت من قمع سياسي بسبب مواقفها، فإن الكورد كانوا مستهدفين في وجودهم كأمة ذات هوية مستقلة وثقافة ولغة تختلف عن السائد.
على الرغم من أن الجميع قد عانى من التهميش أو القمع من قبل النظام السوري، إلا أن الفرق الجوهري يكمن في أن القمع الموجّه ضدّ الكورد كان محاولة منهجية لتصفية هويتهم الثقافية وفرض اندماج قسري في هوية واحدة، بينما كانت معاناة الفئات الأخرى غالباً ناتجة عن صراعات سياسية.
حتى الأسماء الكوردية لم تكن تسلم من هذا الاستهداف. كانت السلطات تفرض تغيير الأسماء الكوردية إلى أسماء عربية في سجلات الأحوال المدنية، في محاولة لتدمير أية صلة بين الكورد وأرضهم. كان الشخص الكوردي الذي يحمل اسمًا غير عربي يتعرّض للتهميش في الحياة العامة، ويُعتبر مهددًا للهوية السورية الموحدة التي فرضتها الدولة. وكانت محاولات أي شخص لكتابة أو نشر أي عمل أدبي أو فني بلغته الأم تُواجه بقمع عنيف، حيث كانت السلطات تُلاحقهم بتهم “التحريض على الانفصال” أو “تعكير صفو الأمن الوطني”.
لكن هذا القمع الثقافي لم يكن محصورًا في حقبة معينة بل استمر لسنوات طويلة، وما زال تأثيره واضحًا حتى اليوم. واليوم، يأتي بعض أولئك الذين كانوا محظوظين بالعيش في بيئة حرّة يتحدثون بلغاتهم الأم في بيوتهم وفي المجتمع، ليقفوا في وجه من كانوا ضحايا لسياسة القمع تلك. هؤلاء الذين يزعمون اليوم أنهم قد عانوا من القمع والتمييز، كيف لهم أن ينسوا أنهم كانوا في واقع الأمر يعيشون في أجواء من الحرية الثقافية التي حُرم منها الكورد؟ كيف لهم أن يتحدثوا عن المظلومية، وهم الذين كان يُسمح لهم بالتحدّث بلغاتهم بحرية، بينما كان الكورد يُمنعون حتى من الحديث بلغتهم داخل بيوتهم؟!
التباكي الزائف من قبل هؤلاء يُظهر حجم الازدواجية في مواقفهم. كيف يمكن مقارنة معاناتهم بتلك التي عاشها الشعب الكوردي، الذي كان يواجه محاولات مستمرة لطمس هويته الثقافية؟ أولئك الذين عاشوا في أجواء حرية فكرية وثقافية، كيف لهم أن يفهموا معاناة الكورد الذين كان يُمنع عليهم مجرّد التعبير عن وجودهم اللغوي والثقافي؟ إنَّ التماثل في المزاعم والتفكير في الظلم، وهو ليس ظلمًا بالأساس، ليس إلا تلاعبًا بالحقيقة ومحاولة للتنصل من مسؤوليات الماضي.
إن محاربة اللغة الكوردية لم تكن مجرّد سياسة ثقافية، بل كانت جزءًا من مشروع واسع استهدف هوية الكورد بأكملها. هذا القمع لم يقتصر على سلبهم من وسائل التعبير، بل كان هدفه محو تاريخهم وأرضهم من الذاكرة الجماعية، حتى أن الكورد لم يكونوا قادرين على تعليم أطفالهم لغتهم أو إخبارهم عن تاريخهم. وفي المقابل، كان الآخرون يعيشون في سلام مع لغتهم وهويتهم دون أن يواجهوا أية معوقات أو تهديدات، ليأتي اليوم من يزعم أنه عانى من الظلم نفسه.
من يدّعي اليوم أنه كان ضحية لهذا النظام، عليه أن يتذكّر أن هناك فرقًا شاسعًا بين معاناته وبين معاناة الكورد الذين كان يُمنع عليهم حتى التعبير عن أنفسهم بلغتهم الأم. هذه المقارنة ليست عدلاً، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تساوي بين من كان يُحارب وجوده اللغوي والثقافي، ومن كان يعيش بحرية.