تشهد الساحة العراقية توتّرًا متزايدًا في العلاقات بين بغداد وواشنطن على خلفية تصاعد الاتّهامات الأميركية لميليشيات مسلّحة داخل العراق بتنفيذ هجمات خارجة عن سيطرة الدولة، ما يضع حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أمام مفترق طرق حرج بين “دمج هذه الجماعات في مؤسّسات الدولة” أو “تفكيكها وتجريدها من السلاح”.
وتأتي هذه الضغوط وسط تصعيد خطير تمثّل مؤخّرًا في الهجوم على مبنى لمديرية الزراعة في منطقة السيدية ببغداد، والذي وُجّهت فيه أصابع الاتهام إلى ميليشيا “كتائب حزب الله-العراق” إحدى أكبر الميليشيات المسلّحة العراقية الموالية لإيران، والتي تنشط ضمن ما يُعرف بـ”محور المقاومة”.
وفي خضم هذه الأزمة، كشف السوداني في لقاء تلفزيوني مع احدى وكالات الانباء الامريكية عن أن الحكومة العراقية أحبطت 29 هجومًا انطلق من داخل الأراضي العراقية من قبل جماعات مسلّحة باتّجاه إسرائيل، منذ اندلاع الاشتباكات الأخيرة بين تل أبيب وطهران.
السوداني دافع أيضًا عن “هيئة الحشد الشعبي” معتبرًا أنها كيان رسمي قائم بموجب القانون ويخضع لسلطة القائد العام للقوات المسلّحة، وأن أي خروقات فردية لا تعبّر عن توجهات الهيئة ككل.
غير أن مصادر أميركية اعتبرت هذا الموقف مراوغة سياسية غير كافية، داعية إلى “تفكيك المجموعات الخارجة عن القانون، وتقديم المتورطين إلى العدالة”.
السفارة الأميركية وآخر التحذيرات
وفي تصعيد غير مسبوق، أصدرت السفارة الأميركية في بغداد بيانًا حادّ اللهجة طالبت فيه الحكومة العراقية بـ “محاسبة المسؤولين عن الهجمات الأخيرة على مبنى مديرية الزراعة في بغداد، وأكّدت أن عدم اتّخاذ إجراءات فورية قد يُفهم كضوء أخضر ضمني من بغداد لهذه الجماعات.
وقالت السفارة في بيان على موقعها: “نُقدم تعازينا لعوائل الضحايا الذين قُتلوا على يد “كتائب حزب الله” وهي منظمة إرهابية مصنفة من قبل الولايات المتحدة وتندرج ضمن قوات الحشد الشعبي، وذلك في 27 تموز/ يوليو في إحدى دوائر وزارة الزراعة في بغداد”.
وأضافت “نشعر بالحزن لفقدان الأرواح، والذي شمل عنصر من الشرطة الاتّحادية ومدني بريء، ونتمنى الشفاء العاجل للمصابين”.
وأردفت السفارة في بيانها “ندعو الحكومة العراقية إلى اتّخاذ إجراءات لتقديم هؤلاء الجناة وقادتهم إلى العدالة دون تأخير”.
وعودات لم تُنفذ…
وفي السياق ذاته، قال مثال الآلوسي، النائب البرلماني السابق، إن هناك تعهدات قدّمتها شخصيات سياسية شيعية في وقت سابق للإدارة الأميركية، لا سيما خلال فترة الولاية الاولى للرئيس الامريكي دونالد ترامب، بشأن تفكيك الميليشيات ودمجها في مؤسّسات الدولة، إلا أن تلك الوعود بقيت مجرّد حبرًا على ورق.
وأشار الآلوسي إلى أن “الميليشيات ما زالت تمتلك سلاحًا ثقيلًا وتسيطر على موارد اقتصادية” محذّرًا من أن أي تصعيد أميركي قد يشمل فرض عقوبات على كيانات عراقية وربما تجميد الأصول المالية في الخارج، لا سيما وأن الاحتياطي النقدي العراقي البالغ أكثر من 100 مليار دولار لا يزال مودعًا في الولايات المتحدة.
بدوره، رأى الباحث السياسي العراقي إحسان الشمري، أن ما يجري في العراق حاليًا يمثّل بداية تشكل ضغط أميركي حقيقي على الحكومة، محذّرًا من أن أي تهاون في هذا الملف قد يؤدّي إلى انهيار تحالف السوداني مع الكتل الشيعية الداعمة له، أو حتى تدخل عسكري محدود بقيادة واشنطن ضد مواقع لميليشيات معينة.
وأكّد الشمري أن “الخيار بات واضحًا أمام بغداد: إما هيكلة الحشد وضبط الفصائل أو مواجهة العزلة الدولية والعقوبات، وربّما فقدان الدعم المالي والاقتصادي الأميركي”.
واعتبر الشمري أن تكرار الهجمات “قد يُفهم أميركيًا على أنه خروج رسمي من الإجماع الحكومي العراقي، وهو ما قد يفتح الباب أمام اتّخاذ قرارات ميدانية مباشرة في المستقبل القريب”.
السيناريوهات المتوقعة
المراقبون لا يستبعدون أي سيناريوهات خلال الأشهر المقبلة، خاصة مع تعثّر قانون الحشد الشعبي في البرلمان العراقي بعد قراءته مرتين دون التصويت عليه، وسط انقسام سياسي وشعبي حادّ حول مستقبل هذه الهيئة.
كما أن تصريحات وزارة الخارجية الأميركية الأخيرة، وتحذيرات الوزير ماركو روبيو، توحي بأن مهلة واشنطن لبغداد بدأت تنفد، وأن أي هجوم قادم قد يُقابل بردّ أكثر حسمًا.
في المقابل، تتحدّث قوى سياسية شيعية عن “مؤامرة أميركية” تستهدف تفكيك الحشد كجزء من صراع أوسع ضدّ النفوذ الإيراني في المنطقة، ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي والأمني.
العراق اليوم يقف على مفترق طرق حرج، في ظلّ ضغط أميركي متزايد، وتردّد حكومي واضح، ووجود ميليشيات وجماعات مسلّحة ترفض الانصهار الكامل في الدولة. وبين تحذيرات السفارة الأميركية، ووعود لم تُنفذ، يبقى التساؤل قائمًا: هل تشهد الأشهر القادمة نهاية الحشد… أم نهاية التفاهم الأميركي العراقي؟