شكراً كوردستان…

شكراً كوردستان...

بقلم: الدكتور حسين جبار إبراهيم

كنّا كلّما اشتد علينا الخطر، وكلّما ضاقت بنا الارض واحتجنا إلى قدر من الراحة والسكينة، يكون الاتّجاه شمالاً خياراً بديهياً لنا. لم تكن كوردستان مكاناً للسياحة بقدر ما كانت مساحة أمان يلجأ إليها من أنهكته الفوضى واتعبت أعصابه الفتنة التي لا يوقظها إلّا ملعون. 

تشخص العيون شمالاً، بحثاً عن حياة طبيعية ليس أكثر. فقد دخلت بغداد منذ عام 2003، مرحلة من أقسى مراحل تاريخها الحديث، تحوّلت إلى فضاء تتحكّم به أيدي عابثة وعقول مضطربة. غاب القانون، وتراجع الاحساس العام بالأمان. ولم يكن هذا حدثاً طارئاً، بل جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية. وكان على الناس الذين أعياهم البؤس أن يبحثوا عن ملاذ داخل وطنهم وليس خارجه.

في ذلك السياق، برزت مدن إقليم كوردستان، أربيل والسليمانية ودهوك، بوصفها مناطق استقرار، تستقبل القادمين من بغداد وبقية محافظات العراق دون إزعاجهم بأسئلة أو اشتراطات سوى ما يتعلّق بالناحية الأمنية والحرص على إبعاد كلّ ما يشوّه الصورة الجميلة والآمنة لكوردستان. لم يُسأل النازحون عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية، ولم يُعامَلوا كغرباء. وجدوا ما افتقدوه في مدنهم، أمناً وخدمات أساسية وإمكانية للعيش والعمل بسلام وبكرامة.

كان الاستهداف في بغداد موجّهاً على نحو خاص، إلى شرائح مهنية وثقافية، أطباء وأساتذة جامعات ومهندسين وطيارين وفنانين ومفكرين… كثيرون فقدوا حياتهم، وآخرون اختفوا بلا أثر. وفي تلك اللحظة الحرجة أسهمت كوردستان في حماية جزء مهم من الرصيد البشري العراقي حين فتحت مؤسّساتها أمام هذه الكفاءات، وسمحت لهم بالعمل في جامعاتها ومستشفياتها ومراكزها الثقافية. وبهذا المعنى، لم يكن دور الإقليم انسانياً فقط، بل عقلانياً ووطنياً أيضاً، إذ حافظ على طاقات كان يمكن أن تُقتل أو تضيع أو تهاجر. كما وفّر هذا المناخ المستقر مساحة للحوار السياسي والاجتماعي، فاحتضنت لقاءات بين أطراف عراقية متخاصمة لم يكن بإمكانها الاجتماع في أماكن أخرى في ذلك الوقت. وأسهم ذلك، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تجنيب البلاد مزيداً من العنف وإنقاذ أرواح كانت مهدّدة.

شكراً يا كوردستان، ومعه اعتذار، فلم يقابل البعض احسانك بإحسان… بعض من استفاد من هذا الملاذ عبّر عن امتنانه بفتور، وآخرون تجاهلوا ما قُدّم لهم حين تبدلت الظروف، وآخرون هاجموا الاقليم أو حرضوا على مهاجمته، متناسين أنه كان يوماً المكان الوحيد الذي حمى حياتهم وكرامتهم.

لكن كوردستان، في سلوكها العام، لم تعر اهتماماً لهؤلاء، بقيت على خلقها الهادئ والمهذب والشجاع، لم تجعل من الأمن سلعة، ولم توظف معاناة الآخرين سياسياً، فهناك بنظرها ما هو اهم لمواطنيها. فمنذ خروجها من قبضة نظام صدام حسين، اتجهت إلى بناء مؤسساتها وبنيتها التحتية، بعيداً عن الصراعات العبثية والجدل العقيم. فشهد الإقليم تطوراً ملحوظاً في مجالات الكهرباء والمياه والطرق والاستثمار والسياحة، ونُفذت مشاريع خدمية، آخرها مشروع “روناكي” الذي أسهم فعلياً في تحسين الكهرباء. وترافق الاستقرار العمراني مع قدر من الاستقرار الاجتماعي، ممّا جعل الإقليم بيئة جاذبة لكلّ من يبحث عن حياة أكثر انتظاماً وسلاماً.

وبعد أكثر من عقدين على تلك السنوات العصيبة، يصبح من الضروري استعادة الذاكرة، ليس من باب المجاملة ولا بدافع العاطفة، بل باعتبار ذلك مسؤولية أخلاقية وتاريخية. فالشكر هنا ليس خطاباً سياسياً، بل اعترافاً بدور واقعي نُفذ في لحظة انهيار عام.

شكراً لكوردستان لأنّها لم تميّز بين عربي وكوردي وتركماني وآشوري، وتعاملت مع الجميع على أساس إنساني. شكراً لأنها ساعدت في حماية الطاقات العلمية والفنية التي يحتاجها العراق اليوم في مسار إعادة البناء. شكراً لأنها كانت مساحة ضوء في زمن خيّم عليه الظلام. لقد علمتنا تجربة الإقليم أن الأمن يبدأ من احترام الانسان وحفظ كرامته، وأن التنمية تُبنى بالعقل والعمل وليس بالشعارات ورفع الاصوات.

إن تذكر فضل كوردستان واجب، فمن لا يعترف بمواقف الشجاعة في الأوقات السيئة، يفقد القدرة على قراءة المستقبل بإنصاف. شكراً وإن جاءت متأخّرة، وليست على قدر الفضل يا كوردستان.

مقالات ذات صلة