بقلم: أحمد مصطفى الغر
تظل تركيا اليوم هي الدولة الوحيدة من غير الأعضاء التي لديها اتحاد جمركي يعمل بكامل طاقته مع الاتحاد الأوروبي، وفي الواقع، لم يكن لدى أي دولة في الاتحاد الأوروبي اتحاد جمركي معه قبل انضمامها سوى تركيا.
على مدار سنوات مضت، سعت تركيا بقوة للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، ساعدتها الجغرافيا على أن تعزز مكانتها في التحالف الغربي، فنشرت جيشها الضخم عبر مساحة واسعة من الأناضول لحماية الجهة الجنوبية الشرقية للقارة الأوروبية، وكانت دائما بمثابة صمام أمان لها في منطقة مضطربة تمتد من حدود ايران والعراق إلى سوريا، في ظل هذه الوضعية كان الافتراض السائد هو أن دور أنقرة المركزي في الجغرافيا السياسية من شأنه أن يضمن لها القبول كعضو في الاتحاد الأوروبي، لكن بالرغم من ذلك كان الرفض الدائم هو الرد الأوروبي على الأتراك، ليس من الصعب فهم سبب الرغبة التركية القوية في الانضمام لهذا الاتحاد، فيما تعددت أسباب دول الاتحاد في رفض تركيا رغم أهميتها من الناحية الأمنية والاستراتيجية بالنسبة لهم، فلماذا يرفض الأوروبيون قبول تركيا ضمن اتحادهم، وفي نفس الوقت لا يعلنون ذلك صراحةً؟، فهل حان الوقت الذي يدير فيه الأتراك ظهرهم لأوروبا؟، وهل ابتعاد تركيا عن الاتحاد الأوروبي قد أصبح حتميًا الآن؟
مخاوف أوروبية
مرّت سنوات طويلة منذ أن طلبت تركيا لأول مرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لم تنتظر أي دولة أخرى في الاتحاد هذه الفترة من أجل الانضمام، ومع ذلك، لم ييأس السياسيين الأتراك معاودة الطلب، في المقابل كانت المخاوف الأوروبية هى المتصدرة، تقلق أوروبا من حالة عدم الاستقرار السياسي في تركيا التي كانت تتخللها انقلابات عسكرية منتظمة كل عشر سنوات تقريبًا، وقد أدت تلك الانقلابات إلى ردود فعل مفهومة من بروكسل والدول الأعضاء، ومن المعوقات الأخرى أيضا سجل حقوق الإنسان السيئ باستمرار في تركيا، إلى جانب مخاوف الأوروبيين من أن تنضم إلى اتحادهم دولة ينتمي معظم سكانها إلى الإسلام، وليس خفيًا على أحد حالة العدائية المستترة تجاه الإسلام في أوروبا، لذا فإن العضوية المأمولة لتركيا في الاتحاد تعتمد ـ إلى حد كبير ـ على حالة من عدم التصديق، فهى دولة ضخمة تقع في آسيا الصغرى، يسكنها المسلمون بأغلبية ساحقة، وتحكمها حكومة ليست مقبولة لدى الزعماء الأوروبيين على نطاق واسع، وفي السياق الاجتماعي.. من الصعب تخمين مدى شعور المواطن الأيرلندي أو البلجيكي العادي ـ على سبيل المثال ـ بالقواسم المشتركة مع الأتراك، حيث تزداد الخشية حيال الحدود المفتوحة والتوظيف لعشرات الملايين من العمال الأتراك الراغبين في اقتحام أسواق العمل الجديدة في تلك البلدان.
العلاقات التركية مع اليونان لا تزال ماضيةً في التدهور، فتبادل التصريحات التحريضية لا يزال كان الحال عليه في الأيام الخوالي السيئة للتسعينيات، ولا يمكن استبعاد نشوب نزاع بينهما في أي لحظة، هذا إلى جانب أزمة الجزيرة القبرصية، فالدولة العضو في الاتحاد الأوروبي الواقعة قبالة الساحل الجنوبي لتركيا، حيث يقع الثلث الشمالي من الجزيرة تحت السيادة التركية منذ عام 1974، ترى أوروبا هذه السيادة احتلالًا، كما أن تركيا لا تزال معادية لاحتمال الانسحاب وإعادة توحيد الجزيرة القبرصية مجددًا، وهذا الوضع يصطدم بدستور الاتحاد الأوروبي الذي لا يسمح بالعضوية لدولة يحتل جيشها بشكل غير قانوني جزءًا كبيرًا من الأراضي في دولة عضو. أيضا لا يمكن الترحيب بوجود تركيا في الاتحاد، في ظل وجود الجارة المسيحية الصغيرة لها، أرمينيا، التي تزعم أن لها مأساة حزينة منذ زمن الحكم العثماني، وهي قضية شائكة بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة، وبين تركيا من جهة أخرى، وقد أحياها الرئيس الأمريكي جو بايدن حاليًا باعترافه بما يصفه بإبادة الأرمن. في ظل هذا الوضع؛ كانت هناك حاجة إلى قدر هائل من حسن النية من الاتحاد الأوروبي والأتراك للتغلب على تلك العقبات، لكن لسوء الحظ، كانت النوايا الحسنة سلعة نادرة في العلاقات بين الاتحاد وأنقرة طوال الوقت، فبدلاً من ذلك، كانت الشكوك والاتهامات المتبادلة هي القاعدة السائدة، باستثناء فترات قصيرة نسبيًا من التوافق.
شريكاً.. وليس عضواً
تقدمت تركيا بطلب رسمي للانضمام إلى الجماعة الأوروبية (الاتحاد الأوروبي) في 14 أبريل 1987، حيث وقّعت معه اتفاقية اتحاد جمركي في 31 يناير 1995، باستثناء أندورا وسان مارينو؛ تظل تركيا اليوم هي الدولة الوحيدة من غير الأعضاء التي لديها اتحاد جمركي يعمل بكامل طاقته مع الاتحاد الأوروبي، وفي الواقع، لم يكن لدى أي دولة في الاتحاد الأوروبي اتحاد جمركي معه قبل انضمامها سوى تركيا، في 12 يناير 1999 وخلال قمة هلسنكي، تم الاعتراف بتركيا رسميًا كمرشح للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، لكن المفاوضات الرسمية بين الفريقين من أجل الانضمام في 3 أكتوبر 2005، ولعل أغرب ما في الأمر هو أنه في الوقت الذي كانت فيه بعض البلدان التي لم يكن بعضها موجودًا على الخريطة قبل بضع سنوات، كانت تتبع مسارًا سريعًا للانضمام للاتحاد دون إيلاء الكثير من الاهتمام لمستوى استعدادها لذلك، ولا يمكن ما حدث خلال قمة لوكسمبورج في ديسمبر 1997، حين مُنحت 12 دولة متقدّمة وضع المرشح، نصفهم بدأ مفاوضات الانضمام للاتحاد على الفور، وهو ما شكّل إهانة كبيرة لتركيا التي تم وضعها جانبًا.
إن إحساس تركيا المتجمع بنفسها كقوة عظمى في المنطقة لا يمكن التغاضي عنه، فالاتحاد الأوروبي يعتمد على تركيا في صفقة اللاجئين، ويبدو عاجزًا أمام هذه الأزمة إذا ما قررت تركيا ذات صباح أن تفتح حدودها أمام طوفان اللاجئين الراغبين في الدخول إلى أراضيه، لكن الموقف العدائي الذي اتخذه قادة الحزب الديمقراطي المسيحي في بعض دول الاتحاد ضد تركيا، حرمها على الدوام من تحقيق ما تصبو إليه، وبدلاً من ذلك عُرض على الأتراك مسارًا منفصلًا ومختلفًا عبر ما يسمى بـ”الإستراتيجية الأوروبية” الخالية من المنظور والمحتوى، والذي أبقى عليها شريكًا استراتيجيًا قيّمًا، لكنها أبدًا لم تكن عضوًا، وفي ظل استقطاب الاتحاد الأوروبي للأنظار إليه، خاصةً بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، يرى البعض بأنه سيحقق التوازن الدولي في وجه الولايات المتحدة، لكن الخبراء يجمعون على أن القطب المهيأ للعب هذا الدور، قد يكون الصين أو ربما روسيا، وهذه الحقيقة لا يغفلها الأتراك، بل فطنوا إليها مؤخرًا، وبدأوا في إعادة التوازن لعلاقاتهم مع الروس والصينيين.
محاولات مستمرة
على الرغم من المحاولات الفاشلة للحكومات التركية المتعاقبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي، فإن هذا الحلم لم يمت يومًا، وعندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم أخذ منظور الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على محمل الجد، فقام رجب طيب أردوغان ـ بصفته زعيم الحزب الذي فاز في انتخابات نوفمبر 2002 ـ بجولة خاطفة إلى الدول الخمسة عشر الأعضاء بالاتحاد آنذاك، كانت مبادرة غير مسبوقة، وتم استقباله بأذرع مفتوحة كقائد ديناميكي متطلع إلى الأمام، وبدأ الحزب يبذل في سنواته الأولى جهودًا جادة للتوافق مع معايير الاتحاد، لكن لسوء الحظ، لم يدم هذا التوافق طويلًا، إذ كشرط لبدء مفاوضات الانضمام، كان على الحكومة المحافظة أن توافق على عدم التمييز بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، وكان هذا شرطًا من المستحيل تحقيقه سياسيًا في غياب تسوية في قبرص، وبالأحرى في ظل رئاسة رجب طيب أردوغان، وتلك معضلة كبرى.
فالأوروبيون ليسوا على علاقة جيدة الآن بأردوغان، وهذا سبب جدير بالذكر عند الحديث عن تدهور العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا بشكل كبير، ومن الأسباب الرئيسية لهذا الانحدار ما يعود للإجراءات والاستفزازات الأحادية الجانب لتركيا في النزاع حول مطالبات الطاقة في شرق البحر المتوسط، والتدخل العسكري في ليبيا، إلى جانب الأزمة الكردية والأرمينية والقبرصية، ومناوشات التصريحات المستمرة بين أردوغان وقادة حزبه من جهة، وبعض القادة الأوروبيين من جهة أخرى، فقد أوضح أردوغان أن تركيا لم تعد دولة علمانية تتوق إلى اعتبارها جزءًا من الغرب، وهو ما أفزع الأوروبيين بشدة، وقد أثارت حكومته غضبهم أكثر حين قامت بإعادة آيا صوفيا إلى مسجد، كما أنه لا يتورع في إهانة بعض زعمائهم، مثل رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من خلال وصفهما بـ”الجشعين وغير الأكفاء” في خطاب ألقاه في يوم النصر التركي في 30 أغسطس الماضي، وفي أواخر العام الماضي قام بوصف الرئيس الفرنسي مجددًا بـ”الميت دماغيًا”.
فتور وابتعاد
من غير المحتمل أن يتغير الوضع في المستقبل المنظور، وإذا كانت هناك أيّ بوادر لإنفراجة قريبة، فمن المحتمل أن تتدهور لا محالة، لقد فقد الاتحاد الأوروبي نفوذه على تركيا بالتجميد الفعال لمفاوضات الانضمام، من جهتها نأت تركيا بنفسها بشكل متزايد عن الاتحاد والقيم التي يجسدها ومعايير كوبنهاجن السياسية، تلك القيم التي يتم الاستهزاء بها الآن علانية في العديد من البلدان الأعضاء، ففي ظل التطورات التي يشهدها الاتحاد، لم يعد يُنظر إلى زيادة عدد الأعضاء على أنه الحل القياسي لجميع المشاكل التي تؤثر على القارة العجوز. ومع ذلك لا يمكن للاتحاد الأوروبي وتركيا إدارة ظهورهما لبعضهما البعض بشكل كامل، بصرف النظر عن العلاقات الاقتصادية والتجارية المكثفة، يشترك الطرفان في مصالح مشتركة تجبرهما عليها الجغرافيا قبل التاريخ، كما أن تركيا حليفة مقرّبة من الغرب، لكن روابطها معه تعرّضت في الفترة الأخيرة لضغوط وخلافات سياسية متزايدة، وهو ما دفع الأتراك إلى اختيار سياسة خارجية أوسع نطاقًا تبتعد عن التركيز التقليدي على الغرب، وتتحوّل نحو مقاربة أكثر توسّعًا تشمل التودّد إلى الخصوم السابقين مثل الصين وروسيا وإيران، وهو ما أحبط نسبيًا النفوذ الأمريكي والأوروبي في الشرق الأوسط.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن هذا الأمر مقلق للغاية، حيث سيخسر قوة إقليمية واستراتيجية مهمة في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى، وسيخسر سوقًا كبيرًا، ويدًا عاملة شابة، بشكل عام يحتاج كلا الجانبين الآن إلى إعادة بناء الثقة ويجب أن يقولا صراحة ما هي نواياهما، لا يمكن أن تستمر عملية عضوية تركيا كما هي منذ عام 2005، ولا يمكن إدارة العلاقات متعددة الأطراف وكذلك الثنائية بين الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه وتركيا في جو من التوتر المستمر، وبشكل عام.. لا يجب إغفال حقيقة أن الاتحاد الأوروبي ينظر إلى تركيا ـ أردوغان باعتبارها تهديدًا استراتيجيًا وليس حليفًا موثوق به على الدوام، فيما أصبحت الغالبية المتزايدة في تركيا ترى الاتحاد بنفس الطريقة، لقد تلاشت فرص عضوية تركيا منذ فترة طويلة، لكن لا أحد يرغب في أن يقولها علانيةً بصوت مرتفع.