استمرارية تراجيديا أطفال الكورد في حرب البكك وتركيا

استمرارية تراجيديا أطفال الكورد في حرب البكك وتركيا

شهدت الحرب الوهمية بين الدولة التركية والبكك منذ انطلاق شرارتها الأولى في سبعينيات القرن الماضي، شهدت أحداث تراجيدية ومأساوية بحقّ الشعب الكوردي، وتسبّبت هذه الحرب اللعينة بتدمير العديد من المدن والقرى الكوردستانية، ودمّرت كذلك آلاف العوائل الكوردية وعرّضتهم للاضطهاد والاستبداد والتهجير والتغييب و… قضت على أطفالهم وهم ما زالوا في ريعان طفولتهم البريئة، وضاعت حياتهم بين أحكام الإعدام والتعذيب والأنباء الكاذبة، ومن بين هؤلاء الذين فقدوا حياتهم في هذه الفوضى والاضطرابات والزوبعة المصطنعة محمد آكار.

فقصة الشاب محمد آكار تجسّد حقيقة التراجيديا لهؤلاء الأشخاص الذين فقدوا حياتهم في ظلّ حرب الدولة التركية والبكك، وبين تأمين حياة بسيطة ولقمة عيش لعائلته البائسة في خضمّ هذه الحياة المريرة في كنف القوتين طرفي الصراع العبثي.

ولد محمد آكار عام 1999 من عائلة فقيرة معسورة الحال في قرية ئاخمه شات (سوكانل) بولاية ئامد، لم يكمل دراسته، فاضطرّ للعمل في تربية الحيوانات، تعرّض لنوبات ومشاكل نفسية، حاول جاهداً تغيير حياته نحو الأفضل لكن دون جدوى، لم يكن يملك نفسية مستقرة، فلم يكن يُعرف متى وكيف سيقضي على حياته بنفسه.

واجه العديد من المشاكل والصعوبات من نفسه وعائلته ومحيطه نتيجة وضعه النفسي والاجتماعي غير المستقر، وبرزت هذه الصراعات لديه بشكل بارز خلال عام 2019، ارتبط بقريبة له بشكل رسمي، ولكن طلّقها قبل الزفاف، تحوّلت مشكلته وعقدته النفسية لمعضلة سياسية، حاول الهرب من البيت وترك العائلة، فالتجأ لبعض أقاربه من أعضاء وكوادر حزب الشعوب الديمقراطي HDP، علماً أن شقيقه الأكبر فقد حياته في صفوف حزب العمال الكوردستاني بكك، عندما لم يحصل على أي ملجا التحق بالبكك، علمت والدته بالقصة، فاعتصمت أمام مبنى حزب الشعوب الديمقراطي HDP، لعبت الدولة بجراح هذه الأم الثكلى كغيرها من الأمهات عندما علمت بفقدانها لفلذّة كبدها، واستخدمتها كوسيلة سياسية للضغط على الحزب في بازاراتها السياسية.

يقول محمد: “لم أكن اريد الارتباط والزواج ولهذا تركت البيت وهربت” نشرت وكالة ميزوبوتاميا البككية والتي تُذاع في تركيا صور محمد، ويظهر جلياً في تلك المشاهد أن محمد لم يكن قادراً على التعبير عمّا في داخله وشعوره، ولم يكن يملك الأهلية ليواجه أعباءه النفسية ومشاكله المستعصية، ختاماً، عاد محمد لبيته، وتزوّج، حتى هناك صور له وهو يرقص في حفل زفافه.

في 16 كانون الثاني الجاري، انتشر خبر على الإعلام مفاده أن محمد آكار أشعل النار بنفسه على إحدى جسور ناحية سور بولاية ئامد، كان محمد أباً لطفل، وزوجته حامل بطفلها الثاني، وكما قلنا إن محمد كان مريضاً بأمراض وعقد نفسية، بل أمضى طيلة حياته يصارع هذه المشاكل والعقد، والآن وبعد إنهاء حياته عرّض حياة عائلته وبالأخص زوجته وطفله الوحيد لمشاكل أعمق وأعقد، ولم تعد هذه الحياة تساوي شيئاً لدى والدته الثكلى!

استثمرت البكك هذه القصة التراجيدية لمحمد دعائياً وعلى أكمل وجه على وسائل إعلامها، فباتت تفتخر بأن محمد كان بككياً وأنه منهم، في حين ألقت الدولة بالتهمة على هذه التنظيمات بأنها هي من وجّهت محمد نحو الموت والمصير المحتوم…

أصدرت الرئاسة المشتركة للمجلس القيادي لمنظومة المجتمع الكوردستاني (KCK) الخيمة التي تنضوي تحتها جميع أذرع البكك، بياناً بخصوص الشاب الكوردي، محمد آكار، الذي أضرم النار بجسده، وزعمت أنه فعل ذلك تنديداً بالعزلة المفروضة على زعيم البكك المسجون عبد الله أوجلان، كما جاء في البيان “لقد أفشل محمد آكار من خلال موقفه الفدائي، سياسات الإبادة الجماعية للشعب الكوردي وممارسات حرب خاصة لحكومة حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية ورئيس الحرب الخاصة، سليمان صويلو، وهذا الموقف والمعنى يدلّ على أنه أحبط أفعالهم القذرة، ويجب أن يفهم الجميع هذا الموقف ومعناه بشكل صحيح!” فكيف بإنسانٍ لا يقدر على إدامة حياته ومواجهة التحديات، وضائعٍ في دوامة الحياة، ويشعل النار بنفسه ويترك وراءه زوجة حاملاً وطفلاً صغيراً وأمّاً ثكلى… فكيف بأمثاله أن يفشلوا سياسة الدولة؟! فما بيان البكك ومنظومتها سوى تشجيع على هذه الأعمال وشرعنة مثل هذه الممارسات، واستثمارها فيما بعد…

فالرسالة التي زعمت البكك أن محمد قال فيها بأنه نفّذ هذا العمل من أجل رفع العزلة عن أوجلان، لم تعطها عائلة محمد للبكك، كما لم ترسلها العائلة لوسائل إعلام البكك، فمن أين حصلت عليها البكك؟! فإمّا هي رسالة مزوّرة، أو أنها من شخص كلّف محمد بإضرام النار في نفسه!

رأينا فاجعة محمد بأم أعيننا، فقد حدثت أمام أنظارنا، إلّا أن هناك الآلاف من القصص المشابهة لقصة محمد التراجيدية وهناك الآلاف من الأشخاص ممّن لا يعرف لهم مصير أو أثر وهم منسيون في صفحات تأريخ البكك، لقوا حتفهم إمّا في خندق البكك أو الدولة، وبالأخص من أبناء مدينة ئامد، فقد أصبحت المدينة مركزاً لمثل هذه الأحداث والمآسي والقصص، لم يعد بإمكان الأطفال والشباب إكمال دراستهم، أو الحصول على عمل ملائم، باتت مشاكلهم الاقتصادية تهدّد حياتهم، يغرق الشباب في تجارة المواد المخدرة (التلياك) بتخطيط ودراسة وبأسلوب ممنهج من الدولة أو يلتحقون بالبكك، ومصير كلا الطريقين واحد إمّا الموت وإما غياهب السجون…

فلو كانت البكك تناضل فعلاً من أجل تحرير الوطن، ولو كانت تجنّد المقاتلين وفق الظروف الملائمة للمجتمع، لكانت لتضحيات هؤلاء معان ودلالات، إلّا أن العكس هو الطاغي على المعادلة الواقعية، فيكتنف الغموض والجهالة الأهداف التي توجّه البكك من ورائها هؤلاء الأطفال والشباب نحو الموت، وعندما ينخرطون في صفوف البكك يصبحون ملكاً لهذه التنظيمات ولا يبقى لهم حق حتّى في أنفسهم، ولو غادروا يوماً ما أطر هذه التنظيمات وتركوا صفوف مقاتليها أو انشقّوا عنها يتمّ توجيه أبشع التهم إليهم كالخيانة والعمالة والتجسّس… نعم، يتمّ التعامل معهم كروبوتات (إنسان آلي) لا يملكون أية أحاسيس أو مشاعر، فهم بأنفسهم لا يعرفون لماذا يموتون؟! وما الهدف من موتهم؟! وخير مثال على ذلك قصة محمد آكار، فهو كما تدّعي البكك أحرق نفسه من أجل أوجلان (آبو) علماً أن أوجلان نفسه لم يضرم النار بجسده! بل لم يقاوم أصلاً بل حتى لم يضرب يوماً عن الطعام ولم يمارس أية فعالية!! بل يبذل كافة جهوده من أجل دمقرطة تركيا وتحقيق مشروع أخوة الشعوب الوهمي!!

والآن… هذا الشخص البائس والفقير والذي لم يقدر على دقع قروضه المصرفية، ولم يقدر على إعالة عائلته وأطفاله، هل يعقل أنه أحرق نفسه من أجل دمقرطة تركيا؟! رجاءً لا تفعلوا هذا، فقد فعلتم كلّ شيء، لا تلعبوا بمشاعر الناس والشعب، لا ترقصوا على جراحهم، لا تلعبوا بضمائرهم، لا تلعبوا بعقولهم، اسحبوا أيديكم القذرة من أطفال الكورد وشبابهم، دعوهم يعيشوا بسلام، دعوهم وشأنهم، كفاكم متاجرة بدماء الكورد أطفالاً وشباباً… لا تستثمروا الأحياء والأموات معاً في سبيل تحقيق مصالحكم الحزبية الضيفة، ولا تدوسوا جثامين هؤلاء الأبرياء البائسين للوصول إلى أهدافكم وغاياتكم القذرة… لا تعاملوا هؤلاء وكأنهم ملك لآبائكم…

نعم، فمحمد لم يقدر على إدامة حياته بصورة طبيعية بعيداً عن جحيم الفقر والجوع، كان محمد ونفسيته المتهالكة الشغل الشاغل لعائلته البائسة، ولكن للأسف الشديد لم تستطع إنقاذه من اضطراباته النفسية ومشاكله وعقده التي حوّلت حياته لجحيم لا يُطاق، فمحمد قصة تراجيدية بل هي استمرارية لتراجيديا أطفال الكورد الذين أضاعوا الحياة في خضمّ الحرب العبثية بين البكك والدولة التركية.

مقالات ذات صلة