تعرّض تأريخ كوردستان للعديد من حملات التشويه وتحريف الحقائق والأخطاء والمفارقات والتناقضات، بحيث أصبح تأريخ الخمسين سنة الماضية مليئاً بالأخطاء والتناقضات، وعلى وجه الخصوص تاريخ إقليم كوردستان ونضال شعبه، فقد تمّ التلاعب به تلاعباً كبيراً لا نظير له.
وبالأخص الكورد الذين يقرؤون اللغة التركية وحدها، فهم يقرؤون فقط مناشير ومطبوعات حزب العمال الكوردستاني بكك، ومن ناحية أخرى، قلّبت البكك كل المعطيات التاريخية رأساً على عقب، وحرّفتها عن حقيقتها 180 درجة، فقد حاولت البكك ربط كوردستان والكوردايتي بتأسيسها وخلق أسطورة لنفسها، أسلوب كتابة التأريخ لدى الكماليين والآبوجيين هو الأسلوب نفسه، لذا تقع على عاتق القوى والحركات الكوردستانية تجسير وترميم هذه الفجوة.
الهدف من كتابة هذا المقال هو توضيح المعالم الحقيقة ومعايير قفزة 15 آب الثانية عام 2015 بتفاصيلها الدقيقة، حيث تعرّف البكك خيانتها هذه بتناقضات ومفارقات كبيرة ولا تتحدّث عنها عندما لا يكون ذلك ضرورياً بنظرها.
الجزء الأول: البكك وجّهت فوهة بندقيتها نحو إقليم كوردستان والحزب الديمقراطي الكوردستاني في المؤتمر الخامس للحزب
لم تتمّ معالجة أسباب الموقف العدواني لحزب العمال الكوردستاني بكك تجاه إقليم كوردستان والمنظمات والأحزاب والحركات السياسية الكوردية، والذي استمر منذ التسعينيات، ولم يتمّ حلها بشكل صحيح من قبل الأمة الكوردية والشعب الكوردي، ومن الخطأ تفسير حروب البكك على أنها صراعات على السلطة والسيادة فقط، وعلى وجه الخصوص، ادّعاءات حزب العمال الكوردستاني بكك وتصريحاته المزعومة مثل “كلّفت دول الناتو إقليم كوردستان بالقضاء على حزب العمال الكوردستاني، وتمّ نشر قوة المطرقة ضدّنا” فادّعاءات البكك هذه وغيرها إضافة إلى كذبها وتعرّيها عن الصحّة والحقيقة… فهي ادّعاءات سخيفة طرائف مضحكة…
والنقطة الأخرى التي يساء فهمها وتفسّر خطأً هي أنه لم تقم أية قوة في إقليم كوردستان بشنّ هجوم على حزب العمال الكوردستاني بكك، بل على العكس تماماً، فالبكك هي التي أطلقت الطلقة الأولى دوماً على الأحزاب والمنظمات والحركات الكوردية، كالقفزة الثانية في 15 آب/ أغسطس 1995.
لماذا تعتبر “خيانة القفزة الثانية” في 15 آب مهمة؟
عام 1995، بدأت البكك بمهاجمة السلطات الكوردية في إقليم كوردستان، ففي ليلة 25 و26 آب، هاجمت 35 نقطة لبيشمركة كوردستان في وقت واحد، كانت من بينها قرى وبلدات ومواقع ومعاقل ومقرّات للحزب الديمقراطي الكوردستاني، سمّيت هذه الخطوة بالقفزة الثانية في 15 آب/ أغسطس، استمرت الاشتباكات 80 يوماً، عقدت اجتماعات بعدها وتمّ إعلان وقف إطلاق النار، لكن عقلية البكك التي بدأت هذا الصراع والحرب لا تزال مستمرة.
قرار البكك بمحاربة ومهاجمة إرادة إقليم كوردستان وشعبه لم يكن هجوماً محلياً ومؤقتاً، بل على العكس من ذلك تماماً، كان هذا الهجوم بمثابة الاستراتيجية الجديدة لحزب العمال الكوردستاني بكك، ولن يتمّ فهم حقيقة عدوان البكك على إقليم كوردستان لغاية فهم الأسباب الكامنة وراء هجوم البكك عام 1995 جيدًا.
إن اسم عملية الهجوم الذي أطلقت عليه البكك “القفزة الثانية في 15 آب/ أغسطس” هي في جوهرها علامة على حدوث تغيير في استراتيجية البكك، وذلك لأن البكك أوقفت العملية التي بدأتها ضدّ الدولة التركية عام 1984، ودارت فوهة بنادقها نحو إقليم كوردستان (نقول هذا دون ذكر التاريخ السري والمريب للبكك وما إلى ذلك).
منذ ذلك الحين، انحرفت فوهة بندقية البكك نحو إقليم كوردستان، وبقيت مستمرة صوب صدور الكورد، بحيث يمكننا القول بأنّه ما زالت القفزة الهجومية الثانية في 15 آب مستمرة، فقد دارت البكك فوهة بندقيتها الموجّهة نحو تركيا صوب إقليم كوردستان وإنجازات ومكتسبات إقليم كوردستان، ولو كانت حاربت الاتّحاد الوطني الكوردستاني من وقت لآخر، إلا أنّها تعتبر الحزب الديمقراطي الكوردستاني عدوّها الرئيسي والأول.
من قرّر الحرب على إقليم كوردستان؟ ومتى؟
إن قرار الحرب ضدّ إقليم كوردستان ومحاربة إنجازاته ومكتسباته، ومحاربة الحزب الديمقراطي الكوردستاني اتّخذه عبد الله أوجلان وتحالفاته المخفية وعلاقاته السرية في دمشق.
عام 1994، قرّر عبد الله أوجلان وما حوله من القوى في دمشق، مهاجمة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، في ذلك الوقت، كانت البكك تستعدّ لعقد مؤتمرها الخامس، أرسل أوجلان دوران كالكان من دمشق لعقد المؤتمر، وكلّفه بإدارة الحرب في إقليم كوردستان.
انعقد المؤتمر الخامس لحزب العمال الكوردستاني بكك في حفتنين في نهاية عام 1994 وبداية عام 1995، المؤتمر الذي استمر طوال شهر شباط/ فبراير، صدر فيه قرار اتّخاذ أراضي إقليم كوردستان ساحة للحرب، وكانت من مقرّرات ونتائج المؤتمر الخامس للبكك شنّ هجمات على إقليم كوردستان.
بعد انتهاء المؤتمر، تم إجراء الاستكشافات والخطط والمهام العسكرية، أنشأت البكك وحدة عسكرية تسمّى بـ “لواء بروسك” للهجوم على إقليم كوردستان، في الـ 8 آذار/ مارس، بدأ المؤتمر النسوي الأول للبكك في منطقة متينا بإقليم كوردستان، وبمجرّد انتهاء المؤتمر النسوي كان من المقرّر شنّ حرب على إقليم كوردستان، لكن الأتراك سبقوهم، فبدأوا العملية العسكرية المسمّاة بـ “جليكي” ضدّ البكك في 20 مارس/ آذار، واستمرت العملية حتى 2 أيار/ مايو وحالت دون تحقيق نوايا زعماء وقادة البكك.
اضطرّت البكك إلى تأجيل هجومه المزمع والمخطّط على الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وبما أن قرار الهجوم على الديمقراطي الكوردستاني كان قراراً استراتيجياً لا تراجع فيه، فبعد بضعة أشهر، عادت نفس الخطة حيز التنفيذ مرة أخرى بأمر مباشر من أوجلان، هذه المرة تمّ تعيين فؤاد ديرسم (علي حيدر قيتان) بدلاً من دوران كالكان، وتوجّه قيتان من دمشق إلى قرية زليي بمنطقة الزاب بداية شهر آب/ أغسطس.
في يومي 3 و9 آب، عُقد اجتماع للمجلس العسكري للبكك في الزاب، تقرّر فيه مهاجمة 35 نقطة مختلفة لقوات الحزب الديمقراطي الكوردستاني على الخطّ الممتدّ من حفتنين إلى برادوست وصولاً إلى ديرلوك وشيلادزي وئاميديي-العمادية وبرواري بالا، في ليلة 25 و26 آب، في هجوم متزامن، وتمّ تحديد الأهداف، كما تمّ وصف العملية الهجومية وتسميتها بـ “القفزة الثانية لـ 15 آب/ أغسطس”.
الحزب الديمقراطي الكوردستاني (PDK) تعرّض لهجومٍ مفاجئ غير متوقع
بعد حرب عام 1992 بين قوات الاتّحاد الوطني الكوردستاني (YNK) -الحزب الديمقراطي الكوردستاني (PDK) من جانب، وقوات حزب العمال الكوردستاني (PKK) في الجانب الآخر، لم تحصل اشتباكات ومعارك مسلّحة لغاية عام 1995، وكانت هناك مفاوضات بين الطرفين لحلّ النزاع، وكانت البكك تتجوّل بحرية تامّة وسط دهوك وأطرافها، تمّ تلبية عموم احتياجاتها وعولج جرحاها في المستشفيات الخاضعة لسلطة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وكانت هناك أيضًا محادثات ومناقشات حول بعض المنصات المشتركة، وقبل أيام قليلة من هجوم البكك، التقى قائد البكك في إيالة گاره، أبو بكر (خليل أتاتش) مع قادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني في منطقة بري گاره وتناولوا العشاء معاً.
هاجمت البكك على 35 نقطة للبيشمركة في ليلة واحدة، ولأن الحزب الديمقراطي الكوردستاني لم يتوقّع مثل هذا الهجوم المباغت، فقد تكبدت قوات بيشمركة كوردستان خسائر فادحة في الأيام الأولى، وأرغمت على الانسحاب من بعض الأماكن.
البكك لم تهاجم النقاط العسكرية فحسب، بل هاجمت القرى أيضًا، على سبيل المثال، تمّ حرق قرية سيدا لعشيرة الريكاني التابعة لشيلادزي على يد مسلّحي البكك.
وأمر القيادي المؤسّس لحزب العمال الكوردستاني بكك، دوران كالكان، بنفسه بحرق جميع قرى ولات السفلى (منطقة بارزان) على غرار حريق روما الكبير الذي وقع عام 64 بعد الميلاد، حيث أشار كالكان إلى ذاك الحريق وقال لقادة الجبهات في المنطقة على أجهزة اللاسلكي “نفّذوا حريق روما على قرى ولات ژيري-السفلى (بارزان)” وبناء على أوامر دوران كالكان تمّ إحراق 9 قرى وهي قرى “ولات ژيري” وقرى تلي، شنگيل، داوتكا وبابسيفا.
البكك مُنيت بهزيمة عسكرية مدوية، وقادتها يتركون مواقعهم القتالية ويلوذون بالفرار
بعدها بفترة قصيرة، استعادت قوات الحزب الديمقراطي الكوردستاني قوتها، وبدأت بهجوم مضاد ومعاكس وواسع أكثر قوة، وبسطت قوتها على كامل المنطقة، وفرّت البكك إثرها من ساحة المعركة وانسحبت وتركت المنطقة لبيشمركة كوردستان، ولم يتمكّن قائد جبهة برواري بالا للبكك، مصطفى قره سو من انتزاع تلة بيگوفا من سيطرة البيشمركة حتى نهاية الحرب، وفي النهاية هرب قره سو إلى جبل سبي (الجبل الأبيض).
غادرت قوات حفتنين خط باتيفا وشيلاني وبيربلا ودشته تَقي وشرانش، عبرت بعضها إلى باكور كوردستان-كوردستان تركيا، والبقية توجّهت صوب الجبل الأبيض (جيايي سبي) مع قائدهم المهزوم، وقامت بيشمركة الديمقراطي الكوردستاني بتطهير منطقة خواكورك، برادوست ووصولاً لمنطقة مزوري من عناصر البكك، ووجّه بيشمركة منطقة سيلكي وبيندرو وميروس أعنف الضربات للبكك، ولأيام عدّة هاجمت البكك تلة قرية گوزي لكّنها لم تحرز أي تقدم على الإطلاق، ولم تتمكّن من انتزاعها من هيمنة البيشمركة، لذلك أطلقت البكك تسمية (تبي ناموسي-تلة الشرف) على هذه التلة، تمّ تدمير وحدة شاهين جيلو (الجنرال مظلوم عبدي) خلف قرية ميروس بالكامل، أصيب شاهين جيلو (مظلوم عبدي) في ساقه في تلك المعركة، توجّه إليه أحد عناصر البيشمركة وأخذ سلاحه، لكنّه لم يجهز عليه وتركه حيّاً، حتّى قام ابن ذاك العنصر من قوات البيشمركة بحمل سلاحه عام 2014 والتوجّه ضمن وحدته نحو كوباني للدفاع عن المدينة الآيلة للسقوط تلبية لنداء مظلوم عبدي ودعوته!
وكان القائد الأعلى للمعسكر المركزي-الهيئة المركزية- لـجيش التحرير الشعبي الكوردستاني (ARGK) الجناح المسلّح لحزب العمال الكوردستاني بكك آنذاك، أي قائد الحرب آنذاك علي حيدر قيتان، محاصرًا في الزاب، وأُجبر على الفرار إلى وادي شفه (دولا ساتورا) وترك خلفه جهازه اللاسلكي المحمول على الظهر والذي كان يتحدّث به إلى آبو-أوجلان، ولاذ بالفرار، ووقع الجهاز بيد البيشمركة، وفي تلك الفترة كانت تلك الأجهزة مهمّة جدّاً، وكان وسيلة الاتصال الوحيدة بأوجلان.
لم تحرز البكك أي تقدّم في محاولاتها الرامية لمحاصرة القرى والبلدات، كقرية بيگوفا وميروس، وانضمّ أهالي تلك القرى بأنفسهم وطواعية إلى الحرب مع البيشمركة ضدّ البكك، ودعمت جميع عشائر المنطقة البيشمركة، مثل عشيرة برواري ونيروي وريكاني ونهيلي وئاميدي ودوسكي وبارزاني ودافعوا عن أرضهم الحرة المحرّرة.
استمرت الحرب لمدة 80 يوماً، وخلقت قفزة البكك وخطوتها في الـ 15 من آب ضغوطات، ومُنيت البكك بفشل ذريع وهزيمة مدوية، حتّى وصل الأمر إلى أن يدعو أوجلان بنفسه إلى هدنة وقف إطلاق النار، قيّم الحزب الديمقراطي الكوردستاني عرض أوجلان هذا وطرحه، وبدأت المفاوضات واللقاءات، وتمّ الإعلان عن هدنة وقف إطلاق النار في 13 كانون الأول عام 1995.
الجزء الثاني: الهزيمة العسكرية للبكك في باكور كوردستان-كوردستان تركيا في تسعينيات القرن الماضي، وأسباب تموضعها في الجبهة المعادية المناوئة للحزب الديمقراطي الكوردستاني.