منذ بداية العام الدراسي الحالي (2023-2024) أعلنت مجموعة من المعلمين في محافظة حلبجة والسليمانية أنهم سيقاطعون العملية التدريسية (إلقاء الدروس) اعتباراً من بداية العام الدراسي الجديد، واستمرت المقاطعة، التي أضاعت قوتها وحدّتها تدريجياً بمرور الوقت، لتنتهي آخر فصول قصّتها عقب إعلان المجموعة الصغيرة في حلبجة يوم أمس، بإنهاء المقاطعة في نهاية المطاف.
ورغم أن بعض وسائل الإعلام حاولت تصوير الأحداث على أنها “مقاطعة المعلمين” إلا أن ما يسمى بـ “مقاطعة المعلمين” التي كان مركزها محافظة السليمانية لم تكن مظاهرة ومقاطعة لعموم المعلمين، بل كانت مقاطعة لبعض المعلمين تقف وراءها الحكومة الاتّحادية -المركزية- الشيعية في بغداد، وبالتعاون مع بعض الأحزاب الكوردية، إذا لخصنا الأحداث.
الإدارة الشيعية العراقية فرضت الاستسلام على حكومة كوردستان
في 24 آذار/ مارس 2023، قضت محكمة العدل الدولية في باريس بإيقاف تصدير نفط كوردستان، وكانت الحكومة الاتّحادية في بغداد قد قطعت ميزانية إقليم كوردستان بعد عام 2011، وكانت حكومة كوردستان تصرف رواتب المعلمين والموظفين بالاعتماد على كميات النفط التي يصدرها الإقليم، قرار محكمة باريس خلق أزمة اقتصادية حادّة لإقليم كوردستان، كما أن الحكومة الشيعية في بغداد والمدعومة من إيران لم تدّخر جهداً بعد عام 2011 في عزل كوردستان ومحاصرتها وإضعافها اقتصادياً، وبعد قرار المحكمة التحكيمية في باريس، شرعت الحكومة العراقية الشيعية بتنفيذ مخطّطها القذر تجاه كوردستان.
في حزيران/ يونيو عام 2023، أقرّ البرلمان العراقي مشروع قانون الموازنة للأعوام (2023-2024-2025) حيث جعل إيرادات صادرات نفط إقليم كوردستان تحت إشراف ومراقبة الحكومة الاتّحادية في بغداد، وجعل القرار النهائي في حسم أي خلاف أو حال حدوث أي إشكال حول تنفيذ بنود الاتّفاق، إلى رئيس وزراء العراق الاتّحادي، وهو الذي يتّخذ القرار النهائي.
خلال النقاشات التي استمرت ثلاثة أيام حول مشروع القرار في مجلس النواب العراقي، عارض الحزب الديمقراطي الكوردستاني مشروع القانون المناهض والمعادي لكوردستان، وقاطع اجتماعات اللجنة المالية احتجاجاً على التعديل الذي طرأ على بعض مواد مشروع القرار، وبالأخص المادتين (13 و 14) من الموازنة، وعدّها انقلاباً على الاتفاقيات السياسية التي أفضت لتشكيل تحالف إدارة الدولة، وبالتالي تشكيل الحكومة الحالية، ولكن، وبعد اتفاق الاتّحاد الوطني الكوردستاني مع الأطراف الشيعية، تمّ التصويت على المادة 14 في 11 حزيران، تلك المادة التي كانت تشكل خطورة كبيرة وقاصمة الظهر بالنسبة للشعب الكوردي وكوردستان، حيث انخفضت حصة الكورد في الموازنة الجديدة، ولم تتمكن حكومة كوردستان من استلام الميزانية اللازمة من العراق منذ 11 شهرا وتواجه صعوبات جدية وبالغة في دفع الرواتب.
وفقاً للأجندات الإيرانية، تمّ تنظيم حركة سياسية مقرّها في السليمانية
وعلى الرغم من أن حكومة إقليم كوردستان سلّمت جميع إيراداتها ونفطها إلى العراق، إلا أنها لم تحصل بعد على حصتها من الميزانية الجديدة، وبهذه الطريقة، تحاول الإدارة الشيعية العراقية تقويض السيادة الاقتصادية لكوردستان والقضاء عليها وانهيارها، بل تحاول العراق جاهدة القضاء على كيان إقليم كوردستان، وما يزيد من إضعاف الكورد والموقف الكوردي تجاه هذه المحاولات العدوانية الحادّة هو أن بعض الأحزاب الكوردية شاركت الدولة العراقية جنباً إلى جنب في فرض (حركة الاستسلام) هذه على حكومة كوردستان، ومن يقود هذه الخيانة القذرة هو حزب الاتّحاد الوطني الكوردستاني بقيادة بافل طالباني، وحركة “الجيل الجديد” لـ شاسوار عبد الواحد قادر، والكيانات التابعة لحزب العمال الكوردستاني بكك.
هذه الكيانات المتحكّمة في السليمانية والمتنفّذة فيها بفضل إيران أصبحت حلفاء وشركاء في تنفيذ أجندات النظام الشيعي، فبدأت حملة ما تُسمّى بـ (مقاطعة المعلمين) كشكل من أشكال الحرب النفسية ضدّ الشعب الكوردستاني، وعلى الرغم من بدء العام الدراسي، قاطع معلموا هذه المناطق قاعات الدراسة وأبواب المدارس، وفي هذا السياق، تعرّض بعض المدراء والمعلمين والمعلمات الذين أرادوا فتح أبواب مدارسهم في المناطق الخاضعة لنفوذ الاتّحاد الوطني للتهديد من قبل بعض الأيادي السوداء والمظلمة، وبذلك تعطلت العملية التربوية لعام 2023-2024.
يحقّ لكلّ من يتقاضى الرواتب-ليس المعلمين فحسب- الحقّ في المطالبة برواتبهم، ومطالبة بغداد والحكومة الاتّحادية بصرف رواتبهم، فمن يقف وراء عدم دفع الرواتب هو الحكومة العراقية وليست حكومة إقليم كوردستان، وإذا ما تمّ اتّخاذ أي إجراء بخصوص الرواتب، فيجب أن يكون ضدّ الحكومة العراقية، وأفضل ما يمكن القيام به في هذا الصدد هو أن يقوم عموم الشعب الكوردي بمقاطعة الحكومة العراقية، ومواجهة بغداد بموقف موحّد ليس فقط المطالبة بالرواتب، بل بالمطالبة بكافة الحقوق الاقتصادية للكورد وكوردستان كأحقية بيع النفط والحصول على إيرادات كوردستان والتمتّع بكافة الحقوق والامتيازات على غرار عموم الشعب العراقي، لكن التظاهرات في السليمانية كانت على نقيض هذه الأهداف والمطالب، هدف هذه المقاطعة لم يتمثّل في الحصول على الرواتب، بل كان الهدف منها تعزيز قبضة بغداد وتقويتها مقابل إضعاف الموقف الكوردي وكوردستان وإضعاف أربيل.
لم تكن مقاطعة المعلمين، بل كانت حركة ابتزاز لتعزيز قبضة بغداد
نظّمت بعض المظاهرات في السليمانية، شارك أتباع وأنصار هذه الأحزاب المناهضة للكورد فيها أكثر من المعلمين أنفسهم، فعلى سبيل المثال، كانت حركة الحرية التابعة لحزب العمال الكوردستاني بكك هي القوة الرئيسية في تلك المظاهرات، ودعت تارا حسين، الرئيسة المشتركة لحركة الحرية، مناضلي حزبها إلى المشاركة الفعالة في مقاطعة المعلمين، وأظهرت هذه الدعوة التي أطلقتها تارا حسين، والتي ليست هي ولا أعضاؤها بمعلمين أو موظّفين، أن الحدث ليس حدثاً متعلّقاً بالمعلمين والموظفين أو العملية التربوية والتدريسية، وأن الهدف من هذه الحركة لم يكن إلزام بغداد وإجبارها على دفع رواتب معلمي وموظفي كوردستان، بل كان الهدف إلغاء الوضع الرسمي لكيان إقليم كوردستان وإقامة نظام المحافظات، حيث يجب ربط كافة مؤسّسات حكومة كوردستان ببغداد. فقبل هذه المقاطعة، كان ممثّلو هذه الجماعات والأطراف المناهضة للكورد وكوردستان قد زاروا بغداد عدة مرات وعقدوا اجتماعات مباشرة مع الإدارة الشيعية، في الوقت الذي استنكف فيه هؤلاء الفوضويين المغرضين عقد أية اجتماعات أو إجراء أية نقاشات مع السلطات الكوردية في أربيل.
وقد أعربت جميع الأطراف الشيعية الداعمة لتقليص بل قطع ميزانية كوردستان عن دعمها لمقاطعة المعلمين، فعلى سبيل المثال أبدى الأمين العام لتيار الحكمة الوطني الشيعي، عمار الحكيم، دعمه لهذه التظاهرات.
في النصف الأول من العام الدراسي للعام الحالي، توقفت العملية التربوية في السليمانية وحلبجة، حُرّم الطلبة من نصف عامهم الدراسي، ورغم احتجاج أهالي الطلاب إلا أنهم لم يستطيعوا إيصال صوتهم بالشكل المطلوب نتيجة ضغوطات الاتّحاد الوطني الكوردستاني، ومع بداية النصف الثاني للعام الدراسي 2024، تزايدت ردود الأفعال الشعبية، بحيث نستطيع القول إن الطلاب قضوا ما يقرب من عام دون تعليم، ونتيجة ردود الأفعال الشعبية الغاضبة، سحب الاتّحاد الوطني مؤسّساته الرسمية من حملة المقاطعة هذه، ولكن بقيت المؤسّسات التي يديرها حزب العمال الكوردستاني بكك وحركة الجيل الجديد لـ شاسوار عبد الواحد داعمة لها مواصلة إياها.
لم تحقّق أنشطة وفعاليات هؤلاء المعلمين، التي نظمتها الإدارة الشيعية العراقية أهدافها المرجوة، أظهرت حكومة إقليم كوردستان موقفاً حكيماً تجاه هذه التظاهرات واستوعبتها بعقلانية، لم يتمّ استهداف الناشطين والمعلمين، كما لم تكشف بشكل مباشر عن القوى التي تقف وراءهم، انتهت حملة المقاطعة أخيرًا في 20 شباط الجاري نتيجة ردود الأفعال الشعبية الغاضبة، عانى الطلاب كثيراً من آثار حملة المقاطعة التي نظّمها المعلمون بحجة الرواتب، خسر الطلاب ما يقارب عاماً دراسياً كاملاً في السليمانية وضواحيها، وتجري محاولات حثيثة لئلا يتأخر الطلاب عاماً دراسياً كاملاً…
ينبغي التفريق بين النضال من أجل الحقوق والشراكة والتواطؤ مع الأعداء
كما يتبين في هذا المقال الموجز، فإن الأحداث التي كانت تجري لم تكن مقاطعة للمعلمين والمدرسين، بل كانت أعمال شغب فوضوية شيعية وحرب خاصة ضدّ الشباب الكوردي، فالكلّ يعرف جيداً أن الحكومة الاتّحادية في بغداد تقف وراء قطع الرواتب والميزانية، ولا دخل لحكومة إقليم كوردستان فيما يجري على الإطلاق، وأن ما يجري هي تجسيد لسياسة بغداد ضد كوردستان، الغرض من هذا المخطّط العدواني القذر هو الاستيلاء على الموارد الطبيعية وإيرادات كوردستان، وإذا ما أراد من لم يتقاضوا رواتبهم أن يتظاهروا، فعليهم أن يتظاهروا ضدّ بغداد لأن بغداد هي من قطعت رواتبهم وليست أربيل.
كما أن المعلمين لم يكونوا الوحيدين الذين لم يتلقوا رواتبهم، وأنه يمكن استعادة ودفع رواتب المعلمين المتبقية مرة أخرى، لكن للأسف الشديد لا يمكن استعادة عام دراسي خسره طلاب السليمانية، وأن أية فعالية كمقاطعة الدراسة لن يعاني منها سوى الطلاب، لكن ما جرى يؤكّد لنا أيضاً أن هناك بنية جاشاتية-جحوشية- لا واعية في إقليم كوردستان لا تهتم بإنجازات الشعب وقيمه ومستقبله… وهذا الهيكل والجسم الغريب مصمّم للغاية على العمل وفقًا لأجندات الحكومة الشيعية الموالية لإيران وتنظيم نفسه كحكومة موازية بديلة داخل كوردستان، وهذه الأطراف المعادية وأذيال العدو لا ترى أي عوائق أمام مصالحها، فهي تعرّض مستقبل الشعب وكيان إقليم كوردستان للخطر.