تراجيديا الشعب وآلام ومآسي أربعة أجيال سُحقت في طاحونة الحرب… تجمعها صورة واحدة!

تراجيديا الشعب وآلام ومآسي أربعة أجيال سُحقت في طاحونة الحرب... تجمعها صورة واحدة!

في الحادي عشر من يوليو/ تموز، أحرقت مجموعة مؤلّفة من 30 عضوًا من أعضاء وعناصر حزب العمال الكوردستاني بكك بينهم قادة بارزين أسلحتهم، وما زالت مسالة حرق الأسلحة أيضًا قضية رئيسية. كانت الصورة الأكثر تداولًا هي صورة لفتاة مقاتلة-گريلا جميلة تحرق سلاحها بدموع منهارة هزّت بدموعها مشاعر ووجدان الكلّ، حيث شعر كلّ كوردي، سواء كان يحب حزب العمال الكوردستاني أم لا، شعر بالحزن العميق لهذه الفتاة الجميلة وحسرتها المريرة على سلاحها، بل حتّى أن هذه الفتاة لم تكن تعرف ماهية هذه المراسم وسط ضجيج دعاية إيديولوجية صاخبة ومتزايدة، ربّما كان مجرّد إلقاء السلاح هو ما استشاط مشاعرها وأحاسيسها، أو ربما يكون وراء حزنها فقدانها لرفاق وسنوات من عمرها الضائع.

لهذا السبب، لا نعرف السبب الحقيقي وراء هذا الحزن المرير والعميق لهذه الفتاة الجميلة، وربما بعد نشر الصورة على نطاق واسع وتحويلها لترند على مواقع التواصل الاجتماعي، سيستثمرها حزب العمال الكوردستاني ويحوّلها إلى مادة دعائية إعلامية للتنظيم، ويُجبر الفتاة على أداء القسم، مُجددًا وتأكيدها على “ولائها وعزمها للقائد آبو”.

فلا نعرف ما تشعر به، وكيف تفسّر وتوضّح نفسها… لكنّنا نعرف ما نشعر به نحن: مراسم تشييع جثامين أربعة أجيال من أبناء الكور وشبابهم الذين تّم تدميرهم في آلة الحرب وسحقهم في طواحينها على مدى نصف قرن من الزمن… آلاف القرى التي أُحرقت ودُمّرت وأخليت من الحياة، تهجير ونزوح الملايين من الناس من ديارهم وأراضيهم… نعم، نحن نشعر بألم أولئك الذين قضوا حياتهم وشبابهم في غياهب السجون وزوايا الزنازين…

والكلّ يتساءل حقيقة: ماذا حقّق حزب العمال الكوردستاني بكك ولمن؟

كانت أجيال الكورد في كوردستان في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي هم من جعلوا من حزب العمال الكوردستاني هذا الحزب، كانت هناك ركيزتان أساسيتان بُني عليهما حزب العمال الكوردستاني. الأولى: هي مقاومة السجون. ولكن لم تكن لهذه المقاومة أي علاقة بأوجلان. فلم يخلق ولم يصنع حزب العمال الكوردستاني بكك وأوجلان مظلوم دوغان أو خيري دورموش… بل على العكس من ذلك، هما من صنعا حزب العمال الكوردستاني بكك وأوجلان. أما الركيزة الثانية التي بُني عليها الحزب هي توجّه وانخراط القوى الوطنية والقومية الكوردية من مناطق مثل بوتان وميردين وآمد صوب حزب العمال الكوردستاني وفي رفوفه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، تأثّر شعب باكور كوردستان-كوردستان تركيا كثيراً بنضال ومقاومة وانتفاضة جنوب كوردستان-إقليم كوردستان، وبسبب حسّهم القومي الكبير وشعورهم بالحرية والتحرّر والاستقلال الوطني… توجّهوا صوب حزب العمال الكوردستاني وانخرطوا في رفوفه، إذ كان التنظيم والحركة الأبرز بين الحركات في باكور كوردستان آنذاك هو حزب العمال الكوردستاني بكك، فكانت هذه الأجيال هي من حملت حزب العمال الكوردستاني على عواتقهم وتحملوا أعباء الحرب على كواهلهم، ولم يقتصر الأمر على اليساريين، بل حتى الملالي والطلاب والكورد الأميين من جميع مناحي الحياة، أصبحوا مقاتلين وگريلا ومتظاهرين في الخطوط الأمامية، أو حتى في السجون قاوموا شتّى صنوف تعذيب الفاشية التركية. حمل آلاف الطلاب الجامعيين ومئات الآلاف من الوطنيين المخلصين من أبناء الكورد أمثال وداد آيدن، عبء النضال على كواهلهم، ترجم كورد باكور كوردستان غضبهم تجاه مجازر القرن والإبادات الجماعية في كلّ من كوجگري وزيلان وساسون وديرسم… إلى صرخة ضدّ نظام الفاشي لانقلاب 12 أيلول وتوجّهوا نحو أحضان حزب العمال الكوردستاني بكك، فالحق والواقع هو أن كلّ شيء كان من أجل النضال الوطني-القومي الكوردي التحرّري.

لم يكن حزب العمال الكوردستاني بكك هو من صنع جيل التسعينيات، بل ولد هذا الجيل من رحم الوطنية-القومية الكوردية كردّ فعل على سياسات الانصهار والإنكار التي انتهجتها دولة الاحتلال التركي، فلم يكن وداد آيدن عضوًا في حزب العمال الكوردستاني، بل كان فقط كوردياً وطنياً مخلصاً وقومياً أصيلاً، فلطالما كان أهالي بوتان-زاگروس موالين داعمين لنضال الحزب الديمقراطي الكوردستاني (PDK) منذ القدم، وتوجّهوا بمشاعرهم القومية الجياشة هذه نحو أحضان حزب العمال الكوردستاني بكك، فلم يكن حزب العمال الكوردستاني  بكك من صنع أو خلق أو أنشأ تلك الجماهير أو تلك القوة ؛ بل على العكس تماماً، هذه الاندماجات والإنخراطات القومية الوطنية هي التي صنعت حزب العمال الكوردستاني. ولكن، وبينما كان هذا الجيل القومي الكوردي الذي نتحدّث عنه يضحّي بحياته ويقدّم نفسه قرباناً من أجل حزب العمال الكوردستاني بكك، كان عبد الله أوجلان يتباحث ويتحاور مع يالجين كوجوك في دمشق حول كيفية تحقيق الميثاق الوطني التركي-ميساق ملي!

سُحقت هذه الأجيال الوطنية القومية الكوردية لـ سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. هذه الأجيال الثلاثة التي كان بإمكانها قيادة الكورد نحو التحرّر والحرية الوطنية، سُحقت عمدًا بين أنياب حزب العمال الكوردستاني بكك والدولة التركية. نزع حزب العمال الكوردستاني القوة الوطنية للقوميين الكورد لهذه الأجيال داخل أطرها واستوعبها وامتصّها حتّى أبادها، والآن، لم يبق من هذه الأجيال سوى قلة قليلة وهي من المدنيين الذين يعرفون جيداً ماهية حزب العمال الكوردستاني وينتقدونه لكنهم لا يستطيعون إيصال صوتهم، وقلة من كوادر الحزب الذين لم يعودوا يعرفون إلى أين ينجرف بهم التيار؟!

بعد الألفية الثانية، ارتمى جيلان مختلفان في حضن حزب العمال الكوردستاني بكك، فقد أبدى الناس ردود فعل على خلفية نقل أوجلان لإمرالي ما نتج عنه التحاقهم بالحزب، وبينما كان هؤلاء الناس ينخرطون في رفوف حزب العمال الكوردستاني بكك كان أوجلان يحاور الضابط التركي ويقول له: “سأعلّم اللغة التركية حتى لرعاة هكاري”. وبعد هجمات داعش عام 2014 وفي فترة روجآفا كوردستان-كوردستان سوريا عاد الكورد من جديد لدعم حزب العمال الكوردستاني. فتوجّه آلاف الأشخاص وبالأخص من شباب الكورد من كافة أجزاء كوردستان الأربعة نحو روجآفا كوردستان.

بمعنى، انخرطت خمسة أجيال من شباب الكورد في حرب حزب العمال الكوردستاني. ضحّى الشعب الكوردي بكلّ ما يملك وقدّمه خدمة لهذا التنظيم، فيا تُرى: لماذا لم ينتصر حزب العمال الكوردستاني ولم يحقّق شيئاً؟! ممّا لا شك أن حاجزاً وسوراً سياسياً تشكّل حول القضية الكوردية. ربّما لا تكفي قوة النضال وحدها من كسر هذا الحاجز وتحطيمه، لكن السبب في أن الهوية القومية للشعب الكوردي في باكور كوردستان-كوردستان تركيا بعد 41 عامًا من النضال السياسي تهاوت إلى مستوى أقل ممّا كانت عليه قبل 40 عامًا، ولماذا تعمّق الانصهار والإنكار لهذا الحدّ وهذه الدرجة، ولماذا يتم قبول الموقف الاستعماري، لم يكن ذلك لأسباب تكهنية. نعم، ربما لم تتمكّنوا من تدمير وإسقاط جمهورية تركيا. وربما كان النظام العالمي عائقاً ومانعاً أمام تحقيق هذه الغاية، لكن حقيقة أن الهوية الكوردية قد تم استيعابها بالكامل في تركيا، حيث أن مقتل 40,000-50,000 شاب في هذه الحرب تُظهر أن الطريقة التي كانوا عليها خاطئة ومعوجّة. وسبب هذا الوضع هو أن حزب العمال الكوردستاني لم يكن حركة تحرّر وطنية حقيقية منذ البداية. نعم، فـ الأحرار والثوار الوطنيون استقلّوا السيارة الخطأ وذهبوا إلى المكان الخطأ.

لم يُعانِ كورد باكور كوردستان لأنهم لم يُحاولوا أو لم يناضلوا جيدًا، ولا لافتقارهم إلى الشجاعة والجسارة، بل تضرّروا وفشلوا لأنهم سلكوا الطريق الخطأ. وهذا هو منبع حزننا العميق في مراسم الاستسلام وإليه يعود السبب. ولهذا أيضاً لا نسأل أبدًا عن: لماذا يتخلّى حزب العمال الكوردستاني بكك عن سلاحه؟ بل على العكس، ندعم نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني بكك وإتلافه. لأنه حتى لو كان من حملوا السلاح مخلصين وعلى حقّ، فإن القادة والتنظيم لو كانا معوجّين وعلى خطأً وخطاهم غير صائبة ستكون النتيجة الدمار والخراب… لذلك، لا ينبغي أن يكون الأجيال القادمة من شباب الكورد وأطفالهم ضحايا المسرحية الدائرة بين حزب العمال الكوردستاني والدولة التركية.

مقالات ذات صلة