فجرّ الحزب الديمقراطي الكوردستاني مفاجأة من العيار الثقيل بقراره مقاطعة الانتخابات البرلمانية الكوردستانية، هذا القرار من شانه أن يترك تأثيراً كبيراً على إقليم كوردستان والمنطقة، علماً أن القرار ليس قراراً بعدم المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها، بل هو رفض لهوية الحشد الشعبي التي فرضت على الشعوب العراقية والكوردستانية، القرار لن يؤثّر على الانتخابات فحسب، بل سيكون له تأثير مهم أيضاً على التوازنات في الإقليم، فالديمقراطي الكوردستاني هو بمعنى إقليم كوردستان وأساس سلطات إقليم كوردستان، فلو تمّ إقصاء الديمقراطي الكوردستاني من كوردستان، فلن يكون هناك كيان يسمّى بإقليم كوردستان، وهذه الحقيقة الراسخة هي الدافع وراء معاداة ومحاربة جميع القوى المحتلّة لكوردستان للديمقراطي الكوردستاني.
إن النهج السياسي لبارزان والمسمّى بنهج ومسيرة البارزاني هي في الواقع حجر الأساس لإقليم كوردستان، فالمسيرة السياسية للبارزاني هي أساس الوحدة والتعايش ليس فقط بين عشائره، بل بين كافة أطياف ومكونات المجتمع الكوردستاني، وبفضل قوتها هذه جلست جميع الحكومات العراقية المتعاقبة على طاولة الحوار والمفاوضات بشكل فعّال ومؤثّر، وأصبحت دعامة نظام السلطات الكوردستانية، وهذا هو السبب الرئيسي وراء استهدافه من قبل عموم القوى المعادية، فكلّ قوة وصلت إلى السلطة في العراق تهاجم أولاً البارزانيين من أجل استغلال كوردستان كما تريد…
الدولة العراقية ليست دولة عريقة في الشرق الأوسط، نعم، لم تكن توجد دولة اسمها العراق في التأريخ القديم، تأسّست الدولة العراقية في عشرينيات القرن العشرين، رسمت حدودها عالمة الآثار البريطانية غيرترود بيل مستشارة المندوب السامي البريطاني في العراق، ولأن البريطانيين كانوا يعلمون أن العراقيين لا يستطيعون حكم أنفسهم، فقد جلبوا ملكاً من الخارج عام 1921 وأنشأوا دولة له، النظام الذي بدأ بالملك فيصل الأول لم يجلب أي سلام أو استقرار للشعب العراقي، حاربت الحركة التحرّرية للبارزاني ضدّ احتلال هذه الدولة لكوردستان، انهارت الملكية في عام 1958 وحلّت محلها جمهورية العراق، كان عبد الكريم قاسم يعلم جيداً أن العراق لن يرى الوجود من دون تشكيل تحالف مع الكورد، وخاصة البارزانيين، ورغم كل الصراعات والفوضى والاضطرابات لم يسمح البارزانيون للجمهورية العراقية باستغلال كوردستان واستثمارها.
عام 1968، بدأ نظام البعث العفلقي عهد العراق الجديد والأطول، فرضت القومية العربية، بقيادة صدام حسين، الهوية البعثية على جميع المكونات والقوميات والأقليات الأخرى في العراق من أجل فرض سيادة العراق، قاومت الشعوب العراقية من كافة شرائح المجتمع، بما في ذلك الكورد والشيعة والمسيحيين والتركمان، ضدّ الهوية البعثية المفروضة عليهم، لكن ما ألهم كافة هذه المكونات المقاومة والصمود هو نهج البارزاني ومسيرته، كان صدام حسين يعلم جيداً أنه لا يستطيع تصفية أية قوة دون تجريد الديمقراطي الكوردستاني وإقصائه، ولهذا السبب فتح قضية خاصة بالبارزانيين أثناء عمليات الأنفال سيئة الصيت، ودفن 8000 بارزاني وهم أحياء!
لكن مسيرة البارزاني لم تتوقف، ولم تستلم، والسبب الرئيسي وراء صمود الشعب العراقي وعدم استسلامه لهوية البعثيين كان نضال البارزاني ومسيرته.
كما لعب الديمقراطي الكوردستاني نفس الدور في الإطاحة بصدام، فتمت الإطاحة بصدام والنظام البعثي، لكن بنية الدولة العراقية تفرض نفسها على الشعب الكوردي بطريقة أشدّ قمعاً وظلماً.
هذه المرة، الهوية التي يتمّ فرضها على الشعب العراقي هي هوية الحشد الشعبي، ففي العراق، الذي ليس له خلفية تأريخية، يضطرّ الشعوب المختلفة إلى التعايش معاً بشكل تعسفّي، ويتم فرض قومية على أخرى، وشعب على آخر، ولكن بدلاً من العصبية القومية العربية، يتمّ فرض الهوية الفارسية الإيرانية على الكورد، تستخدم الحكومة المركزية في بغداد السلطة والدولة لمصادرة حقوق الشعوب العراقية على أساس الولاء لإيران، فمنذ عهد نوري المالكي في عام 2010، قامت إيران ببناء قوتها بمساعدة الشيعة، والحكومة العراقية الحالية أيضاً تحاول العودة بالعراق، فيتمّ فرض الاستسلام على الجميع في العراق.
كانت حركة البارزاني ومسيرته مصدر إلهام لشيعة العراق إلى حدّ كبير، فكانوا يعلمون جيداً أن وجودهم كيف سيعزّز الهوية الكوردية في العراق، لذلك، أرادوا اضطهاد كورد العراق قبل أي شخص آخر، وكذلك اليوم، تريد إيران وتحاول تصفية البارزانيين سياسياً واستسلام الكورد بشكل تام، وما كان هجوم داعش الإرهابي على كوردستان إلّا جزءاً من هذا المخطّط القذر، وتمّ نشر قوات حزب العمال الكوردستاني كقوة بديلة في شنگال وكركوك، وهذا ما تسبّب باحتلال كركوك لاحقاً، ولهذا السبب أيضاً، تمّ تفجير خطوط أنابيب الغاز الطبيعي في كوردستان، كما هو السبب نفسه وراء قصف مركز العاصمة أربيل بالصواريخ الباليستية.
والحقيقة أنه ومنذ عام 2011 وبشكل علني، وبالأخص منذ عام 2017، يتمّ فرض الاستسلام المسلّح بشكل علني على كوردستان، وما تسمّى بالمحكمة الاتّحادية العليا العراقية هي آلة ووسيلة قانونية أخرى في فرض هذا الاستسلام، كما أن وقف صادرات النفط الكوردستاني يُعدّ شكلاً اقتصادياً من أشكال فرض هذا الاستسلام، فهذا النفط ملك للكورد، لإقليم كوردستان، فهل بقيت الثروات الكوردستانية وثراء الشعب الكوردي لإنصاف وزيرة المالية الشيعية؟! كلاّ، فالكورد هم أصحاب هذه النفط وليسوا سرّاقها.
استولت إيران على جميع القوى في الشرق الأوسط وأسّرتها باستثناء الديمقراطي الكوردستاني، فتحت طريقها من طهران إلى البحر الأحمر، خلت بعض المناطق والأماكن من تواجد القوات شبه العسكرية الموالية لإيران، لكن الحزب الديمقراطي الكوردستاني لم يستسلم، ولم يقبل أن يصبح جزءاً من الميليشيا الإيرانية، وليس هذا فحسب، بل أصرّ الديمقراطي الكوردستاني على المشاركة المتساوية والحقوق الديمقراطية والدستورية، هذا الموقف المستقل والمصيري للديمقراطي الكوردستاني جعله في مرمى الدولة الإيرانية والفاشيين العراقيين العنصريين.
نعم، المحكمة الاتّحادية هي سلاح وآلة لهذا المخطّط العدواني القذر، فمنذ تأسيس هذه المحكمة غير الدستورية اتّخذت عشرات القرارات ضدّ الكورد، بل حتى تدخّلت في حصّة إقليم كوردستان من الموازنة العراقية بهدف القضاء على الكيان الرسمي لإقليم كوردستان وتدميره، وعدم دفع الرواتب وأخيراً في الانتخابات، فكان لا بدّ من الوقوف ضدّ فرض هوية الحشد الشعبي.
فالتدخل في قانون الانتخابات لم يكن من أجل خلق نظام ديمقراطي، بل كان هدفه جرّ إقليم كوردستان إلى الظلام والفوضى والاضطرابات والصراعات، فالحقّ أن شعب ومكونات إقليم كوردستان ستنصهر في بوتقة الحكومة المركزية في بغداد والدولة العراقية، وهذا ما تمّ بالفعل في الانتخابات الأخيرة للدولة العراقية، ففي كركوك وديالى والموصل، تمّ التلاعب بقوائم الناخبين وأنظمة التصويت الإلكترونية وأخيراً بنتائج الانتخابات، وهكذا تمّ اختيار مرتزقة العراق وجحوشها.
فمن الآن وصاعداً يجب ألّا نسكت، ونقول كفى! فقد (بلغ السيل الزبى) وتجاوز الأمر حدوده، فكما وقف الديمقراطي الكوردستاني ضدّ الهوية البعثية المفروضة، فها هو يقف شامخاً هذه المرة ويبدي مقاومة تأريخية ضدّ هوية الحشد الشعبي، وبالطبع فالظروف بالغة الصعوبة وتحدياتها كبيرة وما أكثر الجحوش والمرتزقة! فإعلام حزب العمال الكوردستاني بكك الذي يقوم بتبرئة ساحة الدولة العراقية واستخدام قضية مقاطعة المعلمين لتسهيل التدخل الاقتصادي العراقي، فكلّ منظّميها هم جحوش للدولة العراقية ومرتزقة يقتاتون على فتاتها…
علماً أن الديمقراطي الكوردستاني إذا شارك في الانتخابات، فسوف يتصدّر قائمة الفائزين بلا منازع كالعادة، بل لن يصبح فقط الحزب الأول الذي يحصل على أكثر المقاعد والأصوات بل لن يكون بمقدور العديد من الأحزاب مشتركة كسب نسبة أصواته ومقاعده، وقد فاز في الانتخابات العراقية، لكن القضية ليست قضية انتخابات بل تتجاوزها، فالعراق بات يبتعد عن المبادئ المشتركة وتتحوّل إلى نظام قمعي ظالم، استعماري وفاشي لا يحسب أي حساب للدستور، وأية انتخابات تقدّس وتبرر هذا الأمر ستدمر الإنجازات والمكاسب الكوردية.
لذلك، فإن قرار مقاطعة الانتخابات ليس قرار الديمقراطي الكوردستاني وحده، بل هو قراره بالنيابة عن عموم المكونات وأطياف الشعب الكوردستاني من السريانيين والآشوريين والكلدانيين والأرمن والتركمانيين… بل باختصار هو قرار كلّ أولئك الذين لا يريدون أن يصبحوا ميليشيات للحشد الشعبي ويريدون العيش بهوية حرّة ومتساوية، وهو نضال مشترك.