ماجد ع محمد
في حالات الغضب الشديد، يغدو قول بعض الناس كمن أسرف في تناول الكحوليات وبلغ ذروة السكر والاِنتشاء، إذ في الحالتين، أي في حالة مَن كان غَضِباً أو مخموراً، لا تعمل عادةً المكابح الشخصية لدى المرء بالشكل المطلوب، ويفقد الشخصُ أو الكيان السياسي إبان الاهتياج توازنه الدبلوماسي، كحال السكير الذي فقد توازن جسده ولم يعد قادراً على ضبط ملفوظاته. ووضع مسؤولي طهران في هذه الأوقات أشبه بالثملين في تصريحاتهم، حيث أنَّ الجرح الذي طال كبرياءهم إثر عملية السفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، دفعهم إلى قول ما كانوا يمتنعون عن إفصاحه ويصرحون بعكسه في الشهور الماضية، ويظهر أن الوجع الأخير كان أكبر من قدرتهم على الاستمرار بنفس الإيقاع في إطلاق التصريحات.
باعتبار أنَّ الهجوم على سفارة أي بلد في بلد آخر هو بمثابة الهجوم على سيادة البلد الأوَّل نفسه، وهذا الأمر جديد ويمثّل ذروة الهجمات الإسرائيلية على مصالح وسيادة طهران، بما أن مجمل الهجمات السابقة لإسرائيل كانت على مواقع لأتباع وميليشيات وأذرع إيران في الدول المحيطة بإسرائيل، وهو أمر اعتيادي بما أن إيران تستخدمهم لتضحّي بهم، ففي النهاية هم مجرّد أذرع، وكلاء ووظيفتهم أن يفدوا مصالحها بأرواحهم، أما في الهجمة الإسرائيلية الأخيرة، فانتقل الهجوم من مرحلة استهداف الأدوات إلى صاحب ومحرّك تلك الأدوات، وهو ما يدعو دولة الملالي إلى ردّ فعل كبير وقوي لكي تحافظ على ماء وجهها، وتستردّ كبرياءها الذي تمرّغ في موقع سفارتها بدمشق.
وبناءً عليه، رفعت طهران من وتيرة خطابها التهديدي عبر رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري، الذي قال في مراسم تأبين العميد محمد رضا زاهدي في أصفهان إن “على الولايات المتّحدة والدول الاستكبارية الأخرى أن تدرك أن عمر الكيان الصهيوني قد انتهى، وأنّه لم يتبقَ سوى القليل حتى زوال هذا الكيان بالكامل” ومن شدة الغليان عاود اللواء باقري إلى الافتخار بعملية “طوفان الأقصى” لافتاً إلى أنها قد كشفت جزءًا صغيرًا من قدرة جبهة المقاومة، مضيفاً أنّ “ألف مقاتل شاركوا في هذه العملية في هجوم مفاجئ على إسرائيل، مُلحقين بالعدو هزيمة لا يمكن إصلاحها” فهنا من حيث يدري أو لا يدري يعتبر باقري أن عملية طوفان الأقصى هي إما جزء من مخطّط طهران واستراتيجيتها في حربها مع إسرائيل، أو أن العملية بالأصل كانت بأمر مباشر منها، علماً بأن بعثة إيران لدى الأمم المتحدة كانت قد ذكرت في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2023 أن طهران لم تشارك في عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، كما نفى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في العاشر من الشهر وجود أيّ صلة لطهران بعملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ضدّ إسرائيل.
فيما اعتبر اللواء باقري أنّ “الهجوم على السفارة الإيرانية في دمشق كان بمثابة انتحار لإسرائيل، وأنّ استشهاد العميد زاهدي ورفاقه سيسرّع من عملية انهيار وزوال إسرائيل” وهذا التصريح الناري دفع السفير الإيراني في سورية حسین أکبري للقول “إن الكيان الصهيوني خائف للغاية من انتقام إيران الحاسم” وتابع السفير الإيراني أنه “بعد تهديد إيران بالردّ على الهجوم على قنصليتها في دمشق، شعر الصهاينة بالرعب وبدأوا في شراء وتخزين المولدات الكهربائية والمواد الغذائية والأدوية في مناطق آمنة، وهذا يدلّ على أنهم يخشون انتقام إيران الحاسم” ومن قرأ هذين التصريحين واستمع لخطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عن أن “موضوع القنصلية الإيرانية هو مفصلي وأن الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق آتٍ لا محالة” سترتفع درجة الحماسة لديه فيتوقع حينها بأن طهران ستنتقل من القول إلى الفعل، وأنها في حربها مع إسرائيل لم يعد الاتكال على الأذرع يُجدي نفعاً، وأنه حان الوقت الذي سينزل فيه الفاعل الرئيسي إلى الميدان بنفسه، ويزيل خارطة إسرائيل من الوجود، كما يقول ويكرّر منذ عشرات السنين، بينما عملياً وعلى أرض الواقع لم يحرّك حدوة حصان إسرائيلي إلى الآن، وما يستبعد أي تحرك إيراني مباشر ضدّ إسرائيل هو ليس الدعم الأميركي لإسرائيل إنما الهشاشة التي تعانيها طهران من الداخل، إذ أن عمليات جيش العدل البلوشستاني الأخيرة تحمل دلالتين، الأولى أن الداخل الإيراني مهيأ للانفجار بوجه السلطة لمجرد دخول إيران في أي حربٍ مع القوى الدولية، والدلالة الأخرى متعلقة بمدى قدرة الآخرين على تحريك الداخل الإيراني عند اللزوم، بما أن تحرّك جيش العدل في هذا الوقت بالتحديد لم يأتي عفو الخاطر.
كما أنه في الوقت الذي اعتبرت فيه طهران أن عملية طوفان الأقصى كانت انتصاراً على إسرائيل، وذلك على لسان السفير حسين أكبري بتاريخ 6 نيسان (أبريل) 2024، الذي قال إن العدو لم يستطع تحقيق أي هدف في غزة سوى قتل الأطفال والنساء، وأن العدو “الإسرائيلي” خسر في المعركة ويؤجل إعلان خسارته، كان عضو المجلس الوطني الفلسطيني “أسامة العلي” قد أكّد يوم الجمعة بتاريخ 5 نيسان (أبريل) 2024 أن “غزة انتهت” وتساءل العلي: “هل بقي شيء من غزة حتى يُدافع عنها؟ عن ماذا ندافع؟ عن الأرض أو المباني والأطفال والمجاعة؟” وقال العلي: “إن الشباب الذين يحتفلون بالانتصارات هل يعرفون معنى المجاعة؟” وتابع العلي قائلاً: “عناصر حماس يلجأون للأنفاق التي بنيت تحت المباني وكتائب القسام تحتمي بالأطفال” وحيال هذا التناقض بين مفهومي الهزيمة الحقيقية على أرض الواقع والانتصار المزعوم على الهواء، سألوا يوماً الكاتب والمؤرخ فيكتور سوفوروف كيف يمكن لنا أن ننتصر في الحياة؟ أجاب: “الذي يريد أن ينتصر في الحياة عليه أن ينتصر على نفسه، على خوفه وكسله وأنانيته وتردّده، وأن ينتصر على نواقصه” إذ أن هذه الجهات التي تدَّعي الانتصار على إسرائيل عليها قبل كل شيء أن تكون صادقة مع نفسها ومع شعوبها وتتخلّص من طغيانها وجشعها وأنانيتها وعقدها وأمراضها ونواقصها التي لا تنتهي بعدها من الممكن أن تنتصر على أعدائها المفترضين.
على كلّ حال، فبالرغم من الضجيج الإعلامي والتصريحات النارية، ثمَّة ما يشير إلى أن دولة الملالي لن تورط نفسها في استهداف إسرائيل بشكل مباشر، وأنها كما السابق فالحة فقط في الاستقواء على المسالمين من أبناء دول الجوار واستهداف الضعفاء في المنطقة، وذلك لاعتماد قادتها على الآخرين في الدفاع عنها، وهو ما يُستشف من كلام اللواء باقري: “بفضل دماء شهداء المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني وغزة، أصبحت إسرائيل اليوم محاصرة” مضيفاً أن “هذا النار الذي أشعل لن ينطفئ وسيستمر حتى زوال هذا الكيان الغاصب” وفي الإطار ذاته توجّه المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، إلى المسؤولين الإسرائيليين قائلاً: “إذا استطعتم فلتدافعوا عن أنفسكم أمام المقاومة الفلسطينية” ما يعني بأنَّ طهران مع كلّ التهديد والوعيد لن تستهدف إٍسرائيل مباشرةً أو تلجأ لمنازلتها وجهاً لوجه، إنما ستحاربها كالعادة حتى آخر عنصر أو فصيل أو أداة من أدواتها من أبناء المنطقة، وهو الأمر الذي يُذكِّر المتابعين بما يُنسب إلى الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي الذي قال: “سنحارب إسرائيل حتى آخر جندي مصري”.