سوريا فدرالية أو فوضى مستمرة

سوريا فدرالية أو فوضى مستمرة

بقلم: ماهر حسن

من المؤسف أن تتكرّر في الخطاب السياسي عبارة تنكر وجود الكورد، فتصفهم وكأنّهم ضيوف مؤقتون أو وافدون على أرض ليست لهم، بينما الواقع لا يقبل هذا الإنكار: الكورد ليسوا ضيوفاً ولا وافدين، بل شعب أصيل يعيش على أرضه منذ قرون، ووجودهم في كوردستان-سوريا ليس حالة طارئة يمكن تجاهلها أو تأجيل التعامل معها، بل هو واقع ثابت يشكّل ركيزة أساسية.

أي نقاش حول مستقبل سوريا أو صياغة سياسية جديدة لا يمكن أن يكون عادلاً أو صادقاً دون الاعتراف الكامل بهذه الحقيقة، فغياب هذا الاعتراف يعني الاستمرار في الإقصاء والتهميش ويضعف أي مشروع سياسي يراد له أن يكون حقيقياً ومستداماً.

الاعتراف بأصالة الكورد ليس مجرّد مسألة رمزية، بل هو أساس لبناء دولة متوازنة ومستقرّة، وقادرة على حماية كلّ مكوناتها دون استثناء. تجاهل هذا الحقّ لا يضرّ الكورد وحدهم، بل يهدّد استقرار سوريا بأكملها ويعطّل أي إمكانية لإعادة بناء وطن موحّد يقوم على العدالة والمساواة.

سنوات من المركزية المفرطة، والتمييز في التمثيل السياسي، والحرمان من إدارة شؤونهم المحلّية لم تنتج إلا شعوراً بالاستبعاد وعدم المساواة. الكورد يطالبون بما هو بسيط ومنطقي: الاعتراف الكامل بحقوقهم كشركاء متساوين في الدولة، وإعطاؤهم القدرة على إدارة شؤونهم المحلّية بحرية ومسؤولية. ولتحقيق ذلك، هناك خياران عمليان وواقعيان: الفدرالية واللامركزية السياسية.

الفدرالية تمنح الأقاليم صلاحيات واسعة في التشريع والإدارة والاقتصاد، مع بقاء الدولة موحّدة في السيادة والدفاع والسياسة الخارجية. هذا النموذج يضمن للكورد الحقّ في إدارة شؤونهم المحلّية، حماية هويتهم الثقافية واللغوية، والمشاركة الفعلية في صنع القرار دون أن يعني انفصالاً عن الدولة.

اللامركزية السياسية تمنح المجالس المحلّية صلاحيات واسعة لإدارة شؤون المجتمع المحلّي ضمن إطار وطني موحّد. هي أقلّ من الفدرالية من حيث الصلاحيات، لكنّها خطوة حاسمة لحماية الكورد من الإقصاء، وتتيح لهم ممارسة الحكم الذاتي بطريقة منظمة ومسؤولة.

التجاهل المستمرّ لحقوق الكورد ليس خياراً مقبولاً. أي محاولة لاستمرار المركزية المفرطة أو فرض صياغات سياسية تقلّل من تمثيلهم ستكون بمثابة وصفة لفشل الدولة واستمرار النزاعات. ليس خياراً يمكن السكوت عنه أو تبريره، فهو وصفة مؤكّدة للفشل السياسي، ويغذّي شعوراً بالاغتراب والتمييز، ما يهدّد الأمن والاستقرار على المدى الطويل. الكورد جزء أصيل من نسيج سوريا، وإهمال حقوقهم يعادل تجاهل ركيزة أساسية من ركائز الدولة، ويعرض أي مشروع سياسي أو إصلاحي للانهيار قبل أن يبدأ.

بالمقابل، تمكين الكورد من إدارة شؤونهم ضمن إطار دستوري واضح لا يمنحهم مجرّد صفة تمثيلية، بل يحوّلهم إلى شركاء فعليين في صناعة القرار، ويخلق بيئة سياسية أكثر توازناً وعدالة. الفدرالية أو اللامركزية السياسية ليست رفاهية، بل أدوات عملية لضمان مشاركة عادلة، وحماية التنوّع، وتحويل سوريا إلى دولة قائمة على الشراكة والمساواة، لا على الإقصاء أو التهميش.

إن توصيف حقّ الشعب الكوردي في الفيدرالية أو اللامركزية بوصفه امتيازاً أو منحة سياسية، يمثّل قراءة مجتزأة ومشوّهة لمفهوم الحقوق في الفكر السياسي والقانون الدستوري المعاصر. فالحقوق السياسية والقومية للشعوب لا تقاس بمدى سخاء السلطة المركزية أو الظروف السياسية الآنية، بل تستمد من مبادئ المساواة، والاعتراف بالتعدّدية، والالتزام بالمواثيق الدولية التي تضمن للشعوب حقّها في إدارة شؤونها وتقرير شكل نظام الحكم الذي يكفل لها المشاركة الحقيقية.

هذا الحقّ، في الحالة الكوردية السورية، لا ينشأ من فراغ سياسي أو ظرف تاريخي مؤقّت، بل من كون الكورد شعباً أصيلاً، متجذّراً في جغرافية سوريا وتاريخها، له لغة وثقافة وهوية مميزة، ويشكّل جزءاً أساسياً من البنية الاجتماعية للبلاد. ومن ثمّ، فإن المطالبة بالفيدرالية أو اللامركزية ليست سعياً وراء مكاسب فوق العادة، بل تأكيد على مبدأ المساواة في المواطنة، وضمان لآلية توزيع السلطة بما يحدّ من التهميش السياسي والاقتصادي الذي تعرّضوا له لعقود.

في هذا الإطار، يصبح الاعتراف الدستوري بهذا الحقّ ليس خياراً سياسياً قابلاً للأخذ والرّدّ، بل استحقاقاً قانونياً وإنسانياً. فالشرعية السياسية الحديثة تقوم على التوافق بين المكونات الوطنية، لا على فرض نمط حكم أحادي يختزل هوية الدولة في مكوّن واحد. إن الفيدرالية أو اللامركزية، حينما تُطرح في السياق الكوردي، هي أداة لتحقيق العدالة الدستورية، وليست أداة لتقسيم البلاد كما يُروَّج أحياناً.

مقالات ذات صلة