من قفزة 15 آب ولغاية 15 شباط… التسلّح والعنف في الـ PKK

الجزء الخامس: حقبة تبعيث الـ PKK من قبل أوجلان (تحويل الـ PKK للبعثية) وردود الأفعال الداخلية

كانت الحقبة الثمانينية (1980-1990) في تأريخ الـ PKK  ذات أهمية كبيرة، حيث عقد الحزب مؤتمره الثاني والثالث في هذه الفترة، وشهدت السجون والمعتقلات مقاومة عظيمة، وتمّ الشروع بالكفاح المسلّح، وتمّ الإعلان عن قوات الگريلا، غير أن ما ذكرناه هي مجرّد أحداث سردتها الـ PKK في تأريخها الرسمي، إلّا أن هذه الفترة -السنوات العشر- كانت لها تأثيرات مغايرة على الـ PKK بحيث غيّرت من جينات الحزب، هيكلية التنظيم ومبادئه ومنهاجه وطريقة إدارته على وجه السرعة، فأصبح صديق الامس عدو اليوم والعدوّ القديم صديق العمر! وأصبحت لبنان مركز هذه التغييرات.

“القائد” الذي لم يرى كوردستان أبداً!

بعد دخول أوجلان لسوريا تموز عام 1978 ولغاية إلقاء القبض عليه في 15 شباط 1999 لم تطأ قدماه تربة كوردستان أبداً، والحق أنه عدا عشرة أشهر من عام 1978 والتي أمضاها أوجلان في ئامد لم يبقى في كوردستان بتاتاً، فأمضى طيلة فترة الـ 20 عام في الشام ولبنان دون أن يتعرّض لأية مشاكل أمنية، فتعالوا نضع هامشاً لمن يهوى البحث في هذا المجال، ففي الـ 12 كانون الأول عام 1980 نفّذت الدولة التركية في مدينة قامشلو هجوماً على منزل كوردي، أسفرت العملية عن مقتل 7 قادة لتنظيم هيوا و 9 وطنيين مخلصين أي مقتل 16 كوردياً، علماً أن آبو لم يتعرّض لموقف مماثل طيلة فترة بقائه هناك بل على العكس كان يسكن القصور ذات المسابح، والشقق على طرق الشام والأماكن السياحية والتراثية التأريخية… ويتنقّل بحرية تامة!

هل كانت علاقات دمشق مبنية على المصالح أو ضمن تعاون أممي؟

تتحدّث الـ PKK عن فترة بقائها في لبنان بشكل أسطوري لدى سردها لتأريخها، وكيف شاركت في الصراع الفلسطيني الإسرائيليين، وكيف لقي 10 كوادرها مصرعهم في 2 حزيران 1982 في الحرب الإسرائيلية اللبنانية، قال كالكان عام 2018: “نضال الشعب الفلسطيني هو نضالنا، فقد تأسّست رابطة الأخوة القتالية بين الكورد والفلسطينيين” وعظّم من وصف هذه الناحية، ومهما تحاول الـ PKK إبداء علاقاتها مع الفلسطينيين وكأنها تعاون دولي إقليمي فالأمر ليس كذلك في جوهره، فالـ PKK كانت تستلم رواتب الگريلا حيث كانت هذه الأموال تُنقل لمالية الحزب، مقابل هذا كانت الـ PKK تعمل وفق مصالح هذه الدول (سوريا ولبنان وفلسطين) فكان أوجلان يستخدم قوات الگريلا كمقاتلين مأجورين.

شيفرات ذهنية أوجلان الحديثة ومقاومة الكوادر

تضلّع أوجلان بذهنية حزب البعث في دمشق وبيروت، فأحرزت حقيقة البعثيين موقعاً بارزاً في شيفرات ذهنية أوجلان، فجرّ أوجلان الـ PKK نحو مسيرة حزب البعث رويداً رويداً، وهذا ما خلق قلقاً لدى أعضاء وكوادر الـ PKK.

مثال ذلك، عندما توجّه كمال بير من لبنان لكوردستان، قال لجميل بايك: “لن أعود للبنان ثانية” ورغم محاولة بايك ربط موقف كمال بير هذا بـ “فاطمة” غير أن الحقيقة هي أن عموم كوادر الـ PKK كانوا ممتعضين من سياسة وأسلوب حياة أوجلان في بيروت والشام، ومهما وُجدت من تفسيرات فالحقيقة هي ما ذكرناه لا غير، فمن سار في طريق الموت من أجل قضيّته لم يعجبه أسلوب حياة آبو فباتو يشتكون آبو سرّاً.

عقدت الـ PKK كونفرانسها الأول في تموز 1981، وفي حزيران عام 1981 عقدت مؤتمرها الثاني، خلال الحدثين بلغ السخط والاستياء تجاه آبو مبلغاً عظيماً بحيث بات منصب (سكرتير الحزب) على المحك، فطالت النقاشات حتى منصب سكرتير الحزب، فأوشك أوجلان أن يفقد منصبه القديم، وهذه المخاوف أقلقت آبو لحد كبير، وبعد انتهاء المؤتمر بدأ آبو بتصفية حسابات قرنائه المناوئين، وأخلى الساحة من معارضيه، وغربل تنظيماته على كافة المستويات، فبدأت الـ PKK حرباً داخلية سرية في ثمانينيات القرن المنصرم، يقول أوجلان: “لو احتاج الأمر لتصفية الـ PKK عموماً من أجل تصفية أحد الشخصيات المستهدفين بالتصفية لضحّيت بالحزب من أجل هذا الهدف” فاشتدّت الصراعات الداخلية في الـ PKK وبلغت ذروتها، تمخّضت مواقف أوجلان هذه عن تصفية كوادره القدامى حتى طالت مؤسّسي تنظيمات الـ PKK، فقضى آبو عليهم واحداً تلو الآخر، فأبدى آبو نضالاً دموياً مريراً ليحوّل الـ PKK إلى حزب البعث ونفسه للشخص الأول في الحزب، على غرار شخصية صدام والأسد!.

في سهل البقاع، تأثّر آبو بمن كان يردّد شعار (بالروح بالدم نفديك يا أسد) فأراد آبو أن يؤسّس هذا الشعار في أطر الـ PKK أيضاً، فبدأ بعملية دموية من أجل تحقيق هذا الهدف، فأقال مؤسّسي الـ PKK ورفاقه القدامى ومناضلي تنظيماته، واتّهم عشرات الأفراد بالخيانة في لولان ولبنان وأوروبا واغتالهم، دامت العملية لغاية 1986 ليضمن الرفيق “علي=أوجلان” منصب سكرتير الحزب ولقب القائد آبو دون نقاش في المؤتمر الثالث للحزب.

فكان أعضاء الـ PKK يردّدون سابقاً شعار (يان كوردستان يان نه مان=إمّا كوردستان وإمّا الموت) غير أنه وبعد هذه الأحداث ردّدوا شعار (بالروح بالدم نفديك يا زعيم!) عالياً! فقد بلغ أوجلان حلمه المتمثّل أن يكون كـ (صدام أو الأسد) على جثث رفاق دربه! فلم يبق أوجلان أو الرفيق “علي” بل أصبح (القائد آبو)!.

ماذا كان مصدر إلهام الـ PKK؟

تصف الـ PKK الحرب المسلّحة بـ “حرب الگريلا” وتربط أسس الحزب التأريخية بالتنظيمات اليسارية الماركيسية اللينينة على غرار العديد من بلدان العالم كـ (فيتنام وأنغولا وفلسطين)، وكانت الـ PKK تقلّد أسلوب قتال البيشمركة إذ لم تكن ظروف وشروط التربية العسكرية في لبنان تلائم كوردستان، فالقتال في كوردستان بحاجة إلى دراية ومعرفة بالجبال وجغرافية المنطقة وكيفية إشعال النار وكيفية التواري والتمويه والاٌسراء ليلاً إلخ… فبيشمركة كوردستان كانوا على دراية تامة بمثل هذه التجارب، فالـ PKK تعلّمت ألف باء القتال والمعارك من بيشمركة كوردستان، فالبيشمركة كانت القوة القتالية المسلّحة في المقاومة الوطنية والقومية الكوردية التي ختمت الألفية الثانية.

وإنكار هذه الحقيقة التأريخية للـ PKK هي بمثابة إنكار كافة المنجزات الحالية، في الوقت نفسه فهو إثبات بأن الـ PKK لم تكن ضمن أطر البيت الوطني الكوردي، تقول الـ PKK بأنها استفادت من أساليب حروب العصابات الفيتنامية والأنغولية، فهي بهذا نسيت سريعاً كمية الرغيف الذي اقتاتت عليه من حقائب ظهر البيشمركة، واستخدامها لأسلحتهم والنوم تحت خيمهم بل حتى تعلّمها منهم شدّ الـ “شوتك” – قطعة قماش من ضمن اللباس الكوردي تكون كالحزام يلفها الشخص حول بطنه-…

رغم كلّ هذا، تحاول الـ PKK الآن التقليل من شأن بيشمركة كوردستان والاستهتار به، وهذا بمثابة إنكار الـ PKK لتأريخها وبلوغ قمة اللؤم والوضاعة، فعالم الـ PKK مبني على مثل هذه المبادئ لا غير!

العلاقات مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني (PDK)

عام 1980، توجّه محمد قاراسونغور “خالد” لشرقي كوردستان -كوردستان إيران- وفتح باب العلاقات مع الأحزاب الكوردية هناك، بقي قاراسونغور قرابة عام في مقرّ البارتي -الديمقراطي الكوردستاني- في مدينة “شنو”، تأثرّ كثيراً بأصالة البارزاني وبيشمركة كوردستان، فأصبح على قناعة تامّة بأن نضال البيشمركة هو جوهر النضال الوطني والقومي الكوردستاني، عام 1981 عاد قاراسونغور للبنان وقدّم مشروع “مغادرة لبنان والتوجّه لإقليم كوردستان -جنوبي كوردستان” لآبو، والحقّ أن قاراسونغور هو أول قيادي عسكري للـ PKK، فقد شارك في معركة حيلوان وسويركى، فحقاً كان من أوائل مَن كتبوا “الحرب المسلّحة في كوردستان” كما كان أول من جلب الـ PKK لجنوبي كوردستان -إقليم كوردستان- فكان شخصية وطنية قومية مخلصة عظيمة، يؤمن بالتوافق القومي والوطني، وعندما اندلعت الاشتباكات بين الاتحاد الوطني (YNK) والحزب الشيوعي العراقي (IKP) حاول التوسط بينهما لوقف القتال فاستشهد في 2 أيار 1983 بمنطقة بالكايتي بعيارات نارية لمسلّحي الاتحاد الوطني أثناء مهاجمتهم مخيم الشيوعي (IKP)، فكان نبأ استشهاده بحقٍّ بشرى سارة تُزفّ لأوجلان!

ولم تنحصر تأثيرات نضال البيشمركة ومقاومتهم على قاراسونغور وحده من بين كوادر الـ PKK، بل ظهر ذلك جلياً على المجاميع الأولى لهذه التنظيمات والتي لجأت لإقليم كوردستان، فتعلّموا من البيشمركة حياة الجبال، وقد كان البارتي يطلقون اسم (لق=الفرع) على مراكزهم الحزبية وكذلك فعلت الـ PKK، وارتدوا الزي الكوردي والـ “شوتك” مثل البيشمركة بل تعدّى الاقتداء بهم ليصل لطريقة حمل السلاح ووضع الحزام والمخازن، والحق أن الكوادر الأوائل في هذه التنظيمات كانوا نسخة طبق الأصل من نضال البيشمركة وأساليبهم القتالية.

الصدامات بين خط لبنان وخط لولان

أعلن أوجلان هذا الخطّ كخونة ومصفّي حسابات، وذلك من أجل خلق صدامات بين كوادر لولان والجنوب -إقليم كوردستان- فألقى أوجلان كامل ثقله ومشاكله في لبنان بل حتى المتعلقة بـ”فاطمة” على هذا الخطّ.

بعدها أنكرت الـ PKK هذه الحقائق عن إقليم كوردستان، واستذكرت باحترام قضية فلسطين-لبنان وثمّنتها ناكرة كلّ جميل تلقّتها من نضال البارتي وبيشمركة كوردستان، رغم أنه لولا معاهدة 1982 لما استطاعت الـ PKK أن تطأ بقدمها إقليم كوردستان ومنطقة بوتان، فالـ PKK مدين للبارتي حتى بوجودها وعلاقاتها في الإقليم وبوتان، فأهالي بوتان كانوا يرون بهدينان وبيشمركة كوردستان كجزء منهم فنظروا لكوادر الـ PKK كحلقة من نضال البيشمركة فاحتضنوها على هذا الأساس.

يكشف حامد بوز أصلان أنه وبعد 1920، أصبح الكورد أصحاب ثقافة مشتركة ومخيلة جغرافية واحدة، وهذه حقيقة ثابتة وواقعية، فتوحّد الكورد بصدد الخطوط الرئيسية العريضة المشتركة، إلا أن الـ PKK ترى تأريخها أسمى من تأريخ كوردستان، وتعدّ نفسها خارج هذا التأريخ، فتقول بأن التأريخ بدأ منها دون الربط بين تأريخ عموم الكورد، فهي ضربة قاصمة للتأريخ الكوردي المشترك بل والموحّد، بل بلغ الصلافة واللاشرعية منها لتقول بأنها خلقت وبعثت الكورد! فتنكر عموم تأريخ الكورد وكوردستان، فالحق أن الـ PKK تلغي حقبة القومية الكوردية من الواقع، وهي قد لعبت هذا الدور منذ شروعها في النضال المسلّح، ورفضت التعاون المشترك مع الكورد في الجوانب السياسية والعسكرية، والدليل أنه لمّا رأى أوجلان أن دوران كالكان وبعض مسؤولي الـ PKK يتعاونون ويتعاملون مع كوادر البارتي اتّهمه بالوقوف وراء التصفيات، وكان كالكان ورفاقه قد أصدروا مجلة باسم (بيشمركة) كلسان رسمي لـ HRK (قوات تحرير كوردستان) كما قام كالكان نفسه بتأليف كتيب باسم البيشمركة!

نعم، هذه كانت حقيقة كوادر الـ PKK، غير أن أوجلان عدّ البارتي عدوّاً له، وكثيراً ما تحدّث عن هذا في تعليماته آنذاك، وجميل بايك كان صاحب نفس الفكر والذهنية، فيقول بصدد المعاهدة التي أمضوها مع البارتي: “كان ينبغي محاصرة بوتان، وكان ينبغي علينا أن نجرّد الديمقراطي الكوردستاني -البارتي- من أية قيمة أو تأثير لدى دخولنا لبوتان، ولهذا الهدف وقّعنا اتفاقاً مع البارتي!”.

فشعارات الـ PKK الداعية للوحدة الوطنية -القومية- والنضال المشترك كانت شعارات فارغة خاوية منذ اليوم الأول، فهي لا تمتلك أية مبادئ أصلاً، فهي حزب براغماتي، فكانت من جانب تستعدّ لإسقاط بوتان، ومن جانب آخر تعمّق علاقاتها مع صدام، ومن جانب ثالث كانت في خضم معاهدات واتفاقات مع الجحوش التي كانت تعادي وتحارب بيشمركة كوردستان!

رغم هذا الكمّ الهائل من الحقائق، التحق العديد من شباب الكورد بهذه التنظيمات من أجل تحرير كوردستان واستقلالها، وتوجّهوا للجبال، هذا كان حال هذه التنظيمات قبل ما تسمّى بقفزة الـ 15 من آب…

الجزء السادس: قفزة الـ 15 آب وشعوب بوتان وزاكروس

مقالات ذات صلة